إذا كنت في صدر شبابي اخترت صحبة الكبار: يحيي حقي، توفيق الحكيم، زكي نجيب محمود، نجيب محفوظ، ثروت أباظة، إحسان عبد القدوس، يوسف إدريس، ألفريد فرج، رشاد رشدي، صلاح عبد الصبور، طاهر أبو فاشا، وغيرهم، ممن اقتربت منهم، وأنا أبدأ مشواري في الصحافة الأدبية لكي أضيف إلي مناهج النقد التي درستها درس الإبداع من تجارب أصحابه. فإنني في نفس الوقت كنت أراهن علي أفراس تنتظر لحظة الانطلاق، لامتلاكها طاقة الإبداع الأصيل، ومن بين من راهنت عليهم في مطالع التسعينيات أشرف الخمايسي، صاحب "الأرض الرؤوم"، التي طالعت بها "أخبار الأدب" قراءها في عددها الأول، فلفتت انتباه عميد الرواية نجيب محفوظ، الذي شاءت الأقدار أن يتوجه بجائزته عن قصته "عجلات العربة الكارو الأربع" المحفورة في ذاكرتي، لقدرته الفائقة علي كتابة نص سردي يقدم صورة مغايرة لما ألفناه في إيداعنا عن الثورة.. والغضبة.. والتمرد. لذا تأثرت كثيرًا عندما اختفي هذا الجواد فجأة من الساحة بأكملها، بعد أن حقق انطلاقته، وأصدر أولي مجموعاته القصصية "الجبريلية"، وأولي رواياته "الصنم"، اللتين حظيتا باهتمام نقاد بارزين، أذكر منهم: محمود أمين العالم، والدكتور صبري حافظ، والدكتور سيد البحراوي، ومحمد السيد عيد، ومحمد محمود عبد الرازق الذي كتب في معرض تقييمه ل"الجبريلية": "علي نجع الخمايسة أن يفخر بانجاب أشرف الخمايسي كما يفخر نجع البيروم بانجاب يوسف إدريس". لذا اضطررت إلي توجيه نداء أناشده فيه العودة إلي الإبداع بعد أن بلغني أنه انقطع تمامًا عن الكتابة. وربما يفسر هذا كم الفرحة التي غمرتني وأنا استقبل مؤخرًا مجموعته القصصية "الفرس ليس حرًا"، التي أرسلها إليّ ناشرها إلهامي بولس. فالخمايسي، بسرده الهادر، يشكل إضافة حقيقية إلي مشهد السرد العربي، نظرًا لامتلاكه القدرة علي تصوير تفاصيل هذه الحياة العجائبية في صعيد مصر بصورة سحرية لا تقل في روعتها وجمالها عما نقرأه عند مبدعين عالميين مثل ماركيز وسواه من كتّاب أمريكا اللاتينية. ومن يقرأ قصة "كااااك"، التي تضمها مجموعته الجديدة الصادرة عن دار الحضارة، يدرك أنه أمام نص لا يقل قيمة عن نصوص: أنطون تشيخوف، أو جي دي موباسان، وغيرهما من الكتّاب الذين نفذوا إلي عمق النفس وهي تصطرع مع قسوة الواقع. فقد نجح الخمايسي في الزج بقارئه طرفًا في أحداث هذه القصة البديعة التي تصور حسرة امرأة صعيدية تركب القطار لأول مرة، مصطحبة إوزتها، لتهديها إلي ابنتها في بيت الزوجية فإذا بها تضطر، أمام سطوة السلطة، إلي ذبحها بين عربات القطار الهادر. ولأنني لمحت ومضات كثيرة تضئ مشاهد الثورة في قصص هذه المجموعة، فقد ظننت أنه أوشك علي الإنتهاء من عمل كبير يستوعب أحداث ثورة 25 يناير التي طالما حلم بها، وعندما كاشفته بظني، فوجئت به يخبرني بعدم مقدرته علي الكتابة عنها حتي الآن، مبررًا هذا بأن البكاء يغالبه كلما رأي مشهدًا من مشاهدها علي شاشة التليفزيون، وأن الثورة لاتزال في طور لم يكتمل، وحتي يكتب عنها، علي حد قوله، لابد من أن تكتمل أولا، ويتغلب علي عاطفته ثانيًا، لتكون رؤيته لها صافية تمامًا.