فى الحقيقة، إننى لم أكن أعرف "مصطفى نصر" على المستوى الشخصى، ولم أكن قد اقتربتُ منه كثيراً، وإن كنتُ قد قرأتُ بعض أَعماله الإبداعية مثل مجموعته القصصية "حفل زفاف فى وهج الشمس " التى صدرت فى العام 1999 عن " مختارات فصول " ومجموعته "وجوه" التى صدرت فى العام 2003 وروايته الشهيرة "سينما الدورادو" التى صدرت عن "الكِتَابِ الفِضىّ " فى العام 2006 وأيضاً مجموعته القصصية "حُجرَة وحيدة" التى صدرت فى العام 2008 عن "سلسلة كتابات جديدة"، هذا إلى جانب بعض أعماله الإبداعية وكتاباته التى كانت تُنشر بالصحف والمجلات والدوريات مثل : أخبار الأدب، وجريدة القاهرة ومجلة الثقافة الجديدة وغيرها . ومن خلال هذه القراءات والمتابعات، تأكدَ لىَّ بما لا يدع مجالاً للشك، أَننى أَمام كاتب من طرازٍ خاص، له أسلوبه السردىّ الحكائىّ الخاص به، كاتب يوجه كل أعماله، إلى الالتحام الشديد بالواقع، والتفاعلات الحياتية، من خلال آلية السرد فى أعماله الإبداعية، فاستطاع بذلك أن يحفر لنفسه سِكَّة فى الكتابة، بأسلوب سَردى خاص، يُميِّزه عن غيره ..!! مؤتمر أدباء مصر 2008 أقول إننى لم أكن أعرف "نصر" معرفة شخصية، ربما لعدم تواجدى بالإسكندرية فترة من الزمن، ولم يكن قد سبق لى التعرف عليه أيضاً، إلا من خلال كتاباته، وإن كنت قد رأيته لماماً فى بعض الندوات واللقاءات الأَدبية بقصر التذوق بسيدى جابر، أو بمركز الإبداع أوغيرهما، إلاأنه لم يَدُر بينى وبينه أى حديث أو حوار، من أى نوع، حتى كان "مؤتمر أدباء مصر" بمطروح فى أواخر ديسمبر من العام 2008 والذى كان بعنوان "السرد الحديث"، وكنت حاضراً لذلك المؤتمر، الذى كان يترأسه الأديب والروائىّ الكبير "خيرى شلبى"، وفى الفندق الذى نزلنا به، قابلت "مصطفى نصر" وكان من المُكَرَّمين فى هذا المؤتمر هو والكاتب المعروف "رجب سعد السيد"، وكنت أحمل معى بعض النسخ من مجموعتى القصصية الرابعة "الخبز والعصا" .. الصادرة من هيئة الفنون والآداب 2008 وكان قد تصادف صدورها قبل انعقاد المؤتمربعدة أيام، فأهديت كلا منهما نسخة من العمل، كما أهديت بعض النسخ لبعض كبار الأُدباء والنُقَّاد مثل : الكاتب الكبير "إبراهيم أصلان" والناقد / محمد المغربى والناقد السيناوى - حسن غريب وآخرين . بعد انقضاء المؤتمر بأيام قليلة، فوجئت باتصال هاتفى من الناقد "حسن غريب"، يبلغنى فيه أن الأديب الكبير "إبراهيم أصلان"، قد كتب عن مجموعة "الخبز والعصا" فى جريدة "الحياة اللندنية"، كلاماً غاية فى الروعة، وأنه قال ما نصه : "إن هذه المجموعة قد سبق كاتبها مؤتمر السرديات، الذى عقد بمطروح، فى أواخر ديسمبر 2008 ..." وبعدها مباشرة، هاتفنى الكاتب والناقد "محمد المغربى"، معبراً عن إعجابه الشديد بهذا العمل / الخبز والعصا، وإنه يدعونى أنا ومن أريد من الزملاء، لمناقشة هذا العمل فى "بور سعيد"، وعَرضَ استضافتنا هناك للمدة التى نريدها ..!! والحقيقة أن كل هذه الشهادات وغيرها، بقدر ما أسعدتنى وأثلجت صدرى، بقدر ما أشعرتنى بالمسئولية أكثر، ولكنى ظللت أترقب وأنتظر فى كل يوم شهادة "مصطفى نصر" و"رجب سعد السيد" أو رأيهما فى هذا العمل، وحتى وإن كان بالسلب، والحقيقة أننى كنت متلهفاً على ذلك، وقلقاً أيضاً، لأن شيئاً لم يصلنى بشأن المجموعة، من "نصر" أو "سعد"، لأنهما كانا من أوائل من أعطيتهم العمل / كما أنهما من الكُتَّاب المرموقين البارزين الذين يتصدرون المشهد الأدبى بالثغر / العاصمة الثانية. وكان عزائى فى ذلك، أننى فوجئت بالكاتب والناقد الكبير "أحمد فضل شبلول"، وقد كتب دراسة قَيِّمة عن العمل، نالت إعجاب وتقدير الكثيرين، ثم كتب عنها الكاتب والمبدع الجميل "محمد عطية محمود"، دراسة أقل ما يمكن أن توصف به أنها رائعة، كما تناولها بالدراسة أيضاً الكاتب والأديب المعروف «محمد عباس على» وغيره وبعدها توالت الكتابة عنها فى "المساء" و "الجمهورية" و "الأهرام" ومجلة "الإذاعة والتليفزيون" وغيرها، ومع أننى هدأتُ بعض الشىء، إلا أن الأمل ظل يراودنى، أن أقرأ يوماً تعليقاً على العمل من "نصر" أو "سعد" أو كلاهما معاً ..!! ظللتُ متابعاً لأعمال "نصر" .. أقرأ له، وأقابله وأصافحه أو أُسلِّمُ عليه من بُعدٍ، فى بعض المؤتمرات والندوات، وهو - يقيناً - لا يعلم ما بصدرى، وربما لا يعلم عنى شيئاً بالمرة، حتى صدرت مجموعتى الخامسة "الطائر المعدنى" فى أواخر عام 2009 عن "دار الشعب العربى"، وفى كل مرة كنتُ أفكِّرُ فى إهدائه نسخة من العمل أو أن أرسلها له بالبريد، على عنوانه فى "محرم بك"، إلا أننى كنت أتردد ثم أُحجم عن ذلك بالمرة، دون أن ينقص ذلك من قدره عندى شيئاً، بل ظللت أحمل له الكثير من التقدير والإعجاب ..!! الورق والقلم وخلال تتبعى لمسيرة "مصطفى نصر" الحَياتية والإبدَاعية، أدركتُ أن عِشقه للكتابة ربما يكون نابعاً من طبيعة عمله، حيث يعمل بشركة لصناعة الورق / الشركة الأهلية، ومن هنا يمكن أن تكون قد تولَّدت بداخله، بل ترسَّخَت العلاقة الحميمية بينه وبين الورق، بما له من فتنة وبريق خالص، استهوى الكثيرين من الكُتَّابِ، وبما أنه يشغل وظيفة إدارية فى هذه الشركة، فلابد، بل من المؤكد، أنه يحمل القلم دائماً، حيث لا غنى له عن ذلك، ومن هنا نشأت علاقة تلازم بينه وبين الورق والقلم، كما أنه نشأ وتربى وترعرع فى بيئة شعبية، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ هى (حى غربال) وما جاوره، هذا الحى الذى يجمع بداخله، الطبقات الشعبية المختلفة المَستورة منها، والمُهمَّشة، والمَطْحونَة، بل والمَسحوقة أحياناً، والذى يمتهن سكانه شتى المهن، خاصة اليدوية والحرفية، بل وهناك الكثير منهم من الأَرزقية، الذين يعيشون يوماً بيوم، على الأعمال البسيطة والهامشية، وأيضاً عمال اليومية، والسرِّيحة فى القطارات ووسائل المواصلات الأُخرى، وذلك بلا شك بيئة خصبة، مليئة بالأحداث الكثيرة والقصص والحكايات التى لا تنتهى، إضافة لما لها من سحرٍ وعَبقٍ خاص، ومثل تلك البيئات الشعبية، قد استهوت بخصوبتها وسحرها وعبقها وعبقريتها الكثيرين من الكُتَّاب الكبار من أمثال "نجيب محفوظ" و"يوسف إدريس" وغيرهما، كل ذلك قد اجتمع لمصطفى نصر، بالإضافة إلى استعداده الفطرى وشغفه العبقرى، برصد الواقع المعيش، وترجمته إلى أعمال إبداعية لها صفة وميزة ورونق خاص..!! فمن بين حميمية ودفء الورق، وصداقة وعشق القلم، وخصوبة وثراء المكان واستعداد فطرىِّ وشغف عبقرىِّ ؛ تدفق إبداع "مصطفى نصر"، سائغاً شفافاً رقراقاً، لذة للمتلقين ..!! والحقيقة أن "نصر" وإن كان متأثراً فى معظم أَعماله الإبدَاعيةِ - إن لم يكن جميعها - ببعض كبار الكُتَّاب من أصحاب التيَّار الواقعى مثل : محفوظ وإدريس، إلا أنه أيضاً تأثر تأثراً واضحاً فى تلك الأعمال ببعض روَّاد الأدب العالمى من أمثال : "موباسان" و "تشيكوف" و "ديستوفيسكى" وغيرهم، إلا أنه - رغم ذلك - ظل محتفظاً بأسلوبه الخاص وروحه الخاصة، وسرده الخاص أيضاً، محتفظاً بمحليته، بل غارقاً فيها، من رأَسه حتى قدميه، وهذا من شأَنه أن يُميِّزه عن الكثيرين من الكُتَّاب، وجعل له سِكَّة خاصة ومنهجاً خاصاً، يدرك مداخله ومخارجه ويملك مفاتيحه كذلك، وهذا ما جعل من تجربته الإبداعية، علامة مهمة وبارزة فى مرحلة الواقعية الجديدة للقصة والرواية المصرية ..!! قلب الطفل أما "نصر - الأطفال" .. فالحقيقة أننى عندما أقرأه، اشعر بأننى أمام رجل - رغم بدانته وضخامة جسده - إلا أنه يملك فى جوفه قلب طفل، فهو يكتب وكأنه يتكلم مع الأطفال ويحادثهم، بل وكأنه يحادث كل أطفال العالم، لا يُفرّقُ بين جنس أو دين أو لون أو طبقة اجتماعية، معتمداً على القَص والحَكى والسردِ والسيناريو، بأسلوب هو أقرب إلى عقل ووجدان وخيال الطفل -كل طفل- مع خلط الأسطورى والخيالى، بالشعبى والواقعى المعيش، بمعانٍ هى أقرب وأبسط وأيسر، على عقول الناشئة، وقد تابعت بحب وشغف شديدين بعض أعماله للأطفال والتى نُشرت ببعض المجلات والدوريات مثل : قطر الندى، وبراعم الإيمان (الكويتى) والعربى الصغير (الكويتى) وغيرها، إنه يكتب للأطفال بعقل الخبير، وقلب العاشق لهذا العالم أيضاً . وخلاصة القول إن "نصر" ربما كان الكاتب والأديب المصرى الوحيد - وهذا رأيى الخاص - الذى جعل من الإسكندرية مكاناً أو مسرحاً، لمعظم - إن لم تكن كل - أعماله الإبداعية، واستطاع بجدارة أن يُعَبِّر فى هذه الأعمال عن العالم السرى المخيف لهذه المدينة وعن شخوص هذا العالم، تلك الشخوص المنتشرة فى قاع المجتمع السكندرى، والتى ربما يجهلها الكثيرون من الناس، ولعل هذا أيضاً ما يجعلنا نطلق عليه عاشق المكان، بكل ما فيه ومن فيه. وفى النهاية تبقى كلمة . . إن هذا هو بعض ما يمكن أن يُقال هنا، فى هذه العُجَالة، وبالطبع هو ليس كل ما يمكن قوله، عن كاتب وأَديب مرموق ومتميز بحجم وقيمة "مصطفى نصر"، فهو بلا شكِ أحد الكُتَّاب الجديرين بالتقدير والاحترام، والذى تفخر الإسكندرية أن أنجبته، هو وأمثاله من كُتَّاب ومبدعى الثغر / العاصمة الثانية، الذين يستحقون وبجدارة أن يتصدروا المشهد الأدبى، ليس على مستوى مصر وحدها، بل على مستوى الوطن العربى كله، ولِمَ لا، وقد كانت الإسكندرية، منذ القدم، وسوف تبقى، حاملة لمشعل الحضارة والفنون والآداب، وشتى العلوم، ومركز إشعاع حَضارىّ لمصر كلها والوطن العربى، بل أوروبا ذاتها، ولقد كان لها السبق فى ذلك على قاهرة المعز، بل على شتى أقطار الوطن العربى.