لا أتذكر يوماً عشت فيه لنفسي.. فدائماً أعمل وأشقي من أجل سعادة وراحة غيري فعلها أبي معي مبكراً فكنت مازالت في الثامنة من عمري حينما ارسلني للعمل خادمة في منزل المهندس المسئول عن وضع تقاريره السنوية حيث كان موظفاً بالحكومة..لم يثر أبي ولم ينتفض حينما رآني أصرخ وأتألم من المعاملة غير الآدمية التي كنت أتعرض لها في بيت عائلة المهندس.. لم يغضب لآثار الضرب والتعذيب بالكي بل كنت كلما رفضت الذهاب يذيقني من نفس الكأس فلا أجد سوي الخضوع في النهاية لأبدأ حلقات جديدة من الضرب والاهانة والتعذيب.. خمس سنوات أمضيتها تحت هذا الذل والقهر الذي يمارسه علي أبي من جانب.. وأسرة المهندس من جانب آخر ما دفعني إلي التفكير في الهروب من هذا الجحيم. أسررت لأمي بنيتي في الهروب والنزول إلي القاهرة لأقيم عند إحدي قريباتها اللائي تثق فيهن ووجدتها لا تمانع وكيف تمانع وهي التي تكتوي بآلامي ولا تملك رد أبي عن أفعاله حيث تكابد مرارة العيش معه من أجل اخوتي. لذلك لم تنزعج لقراري لتأتي اللحظة التي أترك فيها أمي واخوتي.. وبلدتي الصغيرة لأبدأ حياتي الجديدة في المدينة في كنف قريبة أمي التي حاولت توفير المأوي الآمن لي ؟ فاستاجرت الشقة الصغيرة التي تقابل شقتها لأقيم فيها وتيسر لها الاطمئنان علي فوقتئذ كنت لازالت بنت "15 سنة". ما كان لي أن أقابل هذا الاهتمام والعطف من تلك السيدة إلا بالبحث عن عمل في بيت جديد حتي لا أكون عالة عليها وظللت علي عهدي لأمي حين أوصتني بألا اترك الصلاة وقراءة القرآن ليكونا خير حافظ لي في غربتي من شياطين الانس والجن. وكانت الأسر التي أعمل لديها بالقاهرة أكثر رحمة ورأفه من عائلة المهندس وان كان الأمر لا يسلم من بعض المضايقات لكن يكفيني في النهاية أنني أشعر بكرامتي وآتي بالدخل الذي أسدد منه ايجار مسكني الصغير وأرسل لأمي التي لم ينقطع سؤالي عنها بما تحتاجه لكي يتعلم أخوتي.. وظللت بجانبها حتي بعد أن تزوجت.. هذا الزواج الذي تصورت أنني سأودع حياة الشقاء والخدمة في البيوت.. فقد أوهمني المقربون أنه الرجل المناسب فهو علي خلق وصاحب وظيفة ولا يترك صلاة إلا ويؤديها في ميعادها "!!"..لكن اكتشفت انه مثل أبي وإن كان اخف وطأة فهو مفصول من عمله وحظه من التدين متواضع للغاية.. وما كان علي سوي استئناف رحلة الشقاء لأصرف عليه وعلي نفسي "!!".. ألم أقل لك في بداية رسالتي أنني لا أتذكر أنني عشت يوماً لنفسي؟! لكنني أحمد الله أنه لم يرزقني منه بأبناء.. ويكفيني من وجوده معي أنه يجنبني مرارة الوحدة ووحشتها حتي لو تحملت في سبيل ذلك مهمة الانفاق والتمريض خاصة بعد أن أصابه المرض الخطير وظل في صراع معه حتي قابل ربه.. لقد تجاوزت الآن الستين من عمري دون أن يتغير نمط حياتي فمازلت أسعي علي لقمة عيشي كجليسة أطفال أو مرافقة لسيدة مسنة فصحتي لم تعد تتحمل الأعمال القاسية بعدما أصابني الكبد.. والكلي.. والخشونة ولم تعد مشكلتي الاستمرار العمل وإنما في الوحدة التي تقتلني حيث لا يسأل عني أحد فأمي توفيت منذ وقت قريب.. وأخوتي مشغولون بحياتهم.. وكل ما أتمناه أن أجد من يدق علي بابي ويسأل عني فهل هذا بكثير؟!. ف.أ. الجيزة المحررة تعاظمت محنتك بين أب حرمك من أبسط حقوقك وهي أن تعيشي طفولتك وتأخذي حظك من التعليم.. فزين له الشيطان أن راحته من مضايقات رئيسه "الباشمهندس" أن يستخدمك لديه ولم يهتز قلبه أو تثور كرامته لما فعلته بك عائلة المهندس بل شاركهم في تعذيبك بدفعك لمواصلة الخدمة لديهم . جحيم هربت منه بمباركة من أمك التي لا حول لها ولا قوة لتشملك رعاية احدي قريباتها القاطنات بالمدينة.. غربة كان ونيسك وعاصمك فيها من شرور الناس الصلاة وكتاب الله.. غربة لم تنسك حقك علي أمك واخوتك فلم تنقطع مراسلاتك لهم والوفاء بجانب من نفقاتهم حتي حان سن الزواج ليكون نصيبك في رجل يملك بعضاً من صفات أبيك في عدم تحمله المسئولية لكن ما كان لك أن تعلني رفضك وأنت التي تبحثين عمن يؤنس وحدتك تلك الوحدة التي استبدت بك من جديد برحيل زوجك.. ثم أمك.. وانشغال اخوتك عنك. أعود لأقول لك لقد تعاظمت محنتك.. علي مدي سنين عمرك الستين.. وبات كل حلمك اليوم أن تجدي من يسأل عنك ويدق بابك.. وهو أبسط حق لك: ليس لانك فقط سيدة مسنة ومريضة وإنما بحكم القرابة والدم التي تربط بينك وبين اخوتك فعليك مصارحتهم بتقصيرهم الشديد في حقك والسؤال عنك وأنت التي لم ينقطع سؤالك عنهم بل وانفاقك ايضا.. ولعلك تمديني بأرقام هواتفهم عسي أن أنجح في إعادة التواصل بينكم لتجدي من بينهم من يسأل عنك.. ويدق بابك.