قبل قدومي إلي الدنيا كان أبي قد غادرها للأبد لأحيا وأشقائي في كنف أمي نواجه معاً شظف العيش الذي اعتدناه واعتاد علينا.. سنوات معدودة لحقت بعدها أمي بأبي وأنا مازلت في التاسعة من العمر.. بوفاتها انتقلنا لنقيم مع أسرة خالي التي لم تكن ظروفها أفضل حالاً منا. فالخال صاحب مهنة متواضعة والعبء عليه ثقيل لذلك كان من الطبيعي أن أخرج واخوتي لنشارك في المسئولية فكنت أقوم بتنظيف سلالم العمارات وشراء طلبات للسكان بحكم معيشتنا في المدينة.. ولأن عائلتي من جذور صعيدية فقد نشأت قوية لا أخشي الناس يعرفون حدود التعامل معي ولايتجاوزونها لذلك حينما بلغت سن الزواج أخذتني أحلام اليقظة بأن من سأقبله شريكاً لحياتي لابد أن يكون علي خلق يعرف معني البيت والاستقرار الذي افتقده كثيراً منذ مجيئي إلي الدنيا. كان نصيبي رجلاً طننت في البداية انه سيكون نعم الزوج والسند خاصة وهو يعمل في مجال مضمون المكسب "دباغة الجلود".. مع العشرة والوقت اكتشفت فداحة اختياري فزوجي الذي رزقت منه بثلاثة أبناء "بنتين وولد" لايعبأ بأي مسئوليات يعمل يوماً ويتمارض أياماً مما دفعني للخروج إلي الشارع مصطحبة في يدي ابنتي التي كانت تخطو خطواتها الأولي في التعليم.. اصطحبها معي عسي أن تجنبني مضايقات أولاد الحرام خرجت لأبيع المناديل وأتبادل معها بيع الزهور أحياناً.. ويوماً بعد يوم كنت أكسب ثقة الزبائن واحترامهم ما أعانني علي تدبير مبلغ من المال وضعته كمقدم لاستئجار شقة أرحب من السكن الضيق الذي بدأت فيه حياتي الزوجية ولم يعد يتسع لأسرة من خمسة أفراد. ورغم ما كنت أكابده من زوجي في عدم تحمله المسئولية حرصت علي أن يكون عقد الشقة الجديدة باسمه.. خطوة بدلاً من أن تعزز مكانتي عنده زادته طمعاً في جهدي وفي بهدلة ابنتنا معنا فكان كلما اطمأن بأن معي نقوداً كلما تظاهر بالمرض ليمتنع عن الخروج للعمل.. وكأنه متلذذ بتعذيبي وابنته التي ما أن يدق جرس المدرسة حتي تأتيني لتقف معي أثناء البيع ثم تختلس ساعة لتنهي واجباتها علي ضوء مصابيح الطريق.. وحينما بلغت شقيقتها الصغري سن المدرسة حذت حذوها. وجاء اليوم الذي تبدلت فيه أحوالي وشعرت فيه بالمرارة والمهانة حينما أمسكت بي الشرطة وعاملتني علي أنني متسولة.. ساعات عصيبة عشتها داخل القسم إلي أن أخلي سبيلي لعدم صحة الادعاء الموجه لي.. عدت إلي البيت ثائرة حزينة وأخذت أحمل مسئولية ماجري.. وبدلاً من أن يعتذر ويخفف عني تمادي في جحوده ونكرانه لدرجة لم أبرأ من أثارها بعد.. تصوري لقد راح يطعن في أخلاقي لاسامحه الله- ويتعمد اهانتي أمام أولادي بأحط الأوصاف وكان من الطبيعي أن تنتهي المهزلة بالطلاق متخلياً فيه عن ابنتيه ومحتفظاً بالولد. نهاية ماكنت استحقها وأنا الذي ضحيت ولم أبخل.. نهاية دفعتني للبحث عن البديل الذي يصونني وابنتي.. وجدته رجلاً طيب القلب رقيق الحال عاهدني ألا يتخلي عني وأن نسعي معاً علي لقمة العيش سبع سنوات مضت علي زيجتي الجديدة رزقت فيها بالابنة رقم 3 .. ومضت بنا الحياة نخرج جميعاً من باكر ولا نعود قبل الغروب نقتات بالحلال وتزداد ثقة الزبائن فينا وهم يراقبون انتظامنا وانضباطنا ومظهرنا المرتب لدرجة ان سيدة اقتربت مني ذات مساء لتسألني: كيف تحافظين علي نظافة بناتك وانتم طوال اليوم في الشارع؟ لم أجبها وقلت في نفسي الحمد لله انني استطعت ان احافظ علي بناتي وعلي صورتهن في أعين الناس وهن اللائي ذقن معي مرارة السعي علي لقمة العيش! الحمد لله انني رغم ما لاقيته من جحود ونكران مازلت احتفظ ببعض من عقلي فلم امنع ابنتي من رؤية والدهما والتواصل مع شقيقهما الذي فضله ليعيش في كنفه. الحمد لله انني لم افقد السيطرة علي البركان الذي بداخلي بعد أن تلقيت منه الانذار الأخير بالخروج من الشقة التي وضعت فيها شقاء عمري وهو ما دفعني للحديث إليك عسي أن يجد الناس في قصتي الدرس والعبرة راضية ولو بحجرة تؤويني وزوجي الطيب الإنسان الذي ترفق بحال ابنتي وحافظ عليهما وظل علي عهده معي حتي بعد أن رزقني الله منه بطفلة.. فلم يفرق ولم يتنكر لي مثلما فعل معي الآخر فهو فخور بزوجته وأم ابنته بائعة المناديل. ر.م- القاهرة المحررة واصلت حياتك رغم الطعنة الغادرة التي تلقيتها من زوجك الأول فقبلت التحدي ولم تتركي نفسك في مهب الريح بل بحثت ودققت هذه المرة في اختيار من يكون خير سند لك وعون.. رغم تعويض الله لك بالزوج الطيب الذي احتضنك وإبنتيك مازال البركان بداخلك يعلو ويهبط محاولاً إلقاء جمراته الحارقة علي من حوله.. لكنك وبأخلاق الصعيدية الأصيلة والتزامها أمام الله وقبل الخلق لم تردي الصاع صاعين ودفعت بالتي هي احسن حين سمحت لمطلقك برؤية ابنتيه ولم تتركي مساحة الجفاء تتسع بينهما وبين شقيقهما الوحيد لن أقول لك أنك أخطأت حينما وضعت شقاء عمرك في شقة باسم زوجك السابق.. لأن المفترض في الحياة الزوجية السوية حسن الظن بين الطرفين وهو مالم يتوافر في حالتك لكن ولأن الله رءوف رحيم بالمكافحين أمثالك فقد منحك جائزته بالبديل الصالح الذي صانك وصان ابنتيك بل ظل علي عهده معك بعد أن رزقت منه بابنة من صلبه. لك أن تفخري يابائعة المناديل بأنك قدمت النموذج المبهر في اعتنائك ببناتك فكان محل دهشة المارة وهم يراقبونهن وهن يستذكرن دروسهن علي ضوء مصابيح الطريق.. أما يكفيك نظرات الاحترام والتقدير في عيون كل من حولك لكي يخمد البركان الذي بداخلك منذ أن أوهمك زوجك الأول بماليس فيك في لحظات غضب حاول فيها إخفاء ضعفه وخنوعه حين استغل شقاءك واستحله.. فهنيئاً بالبديل الصالح وحفظه الله لك يا أم البنات.