كلمات نابعة من القلب استقرت في وجدان كل من يقدر مدي المسئولية الملقاة علي عاتق من يجلس علي منصة القضاء.. خوف وخشية من الله ورهبة من المساءلة في يوم اللقاء العظيم. موقف رائع ارتجت له أركان قاعة محكمة جنايات القاهرة. ففي وسط صخب المحامين ما بين المدافعين عن المتهمين في قفص الاتهام. الرئيس السابق مبارك ومن معه وبين المدعين بالحق المدني في حسم هذا الجدال الدائر بين هؤلاء الاطراف. قال بصوت ينبثق من صدر رجل اعتلي منصة القضاء سنوات عديدة. استشعر عظمة ربه: إنني قريب من القبر وعندي 61 سنة. وسأنزل القبر وحدي وسأجلس للحساب. ولن ينفعني أحد. فماذا سأقول؟! وحين ضجت القاعة بالتصفيق الحاد رفض هذا الاسلوب بلهجة قاطعة قائلا: "إن من يملك المدح يملك القدح" سجع يؤكد امتلاك هذا المستشار الجليل محمود كامل الرشيدي لناصية اللغة العربية وأعاد إلي الأذهان مواقف قضاة مصر العظام حيث كانت أحكامهم وحيثياتها بمثابة قطع أدبية رائعة الابداع مكتملة الأركان القانونية في صياغة غاية في الرقة والابداع. إنها حكمة رجال العدالة الذين شهد بأدائهم القاصي والداني. إنهم سدنة الحق لا يخشون في الحق لومة لائم وصدح الجميع في ساحة العدل: "إن في مصر قضاء". هذه المقدمة أراها ضرورية لكي أضع أمام بعض المشككين الصورة الرائعة التي توضح بجلاء أن مصر زاخرة بالرجال العظام في محراب العدالة يقدرون المسئولية حق قدرها. إنهم يخشون يوماً لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم. إنهم يسهرون الليالي ينقبون ويبحثون عن الأدلة التي تبرئ ساحة أي متهم قبل الإدانة. إنهم يبذلون أقصي الجهد وهم معصبو العينين. سائلين الله أن يوفقهم إلي صواب الحكم وتحقيق العدل. خوفاً وخشية من الله وحده. هؤلاء الرجال حراس العدالة يطهرون أنفسهم بأنفسهم ويضعون نصب أعينهم قول الحق تبارك وتعالي: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيرا" "58 النساء" وقوله تعالي: "ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم علي ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوي واتقوا الله إن الله خبير بما بما تعملون" "المائدة 8" إلي غير من آيات القرآن الكريم والسنة النبوية. هذا الموقف الرائع للمستشار محمود كامل الرشيدي الذي عبر بكلمات تنبئ بالصدق عنه وعن المستشارين المشاركين له في جلسة المحاكمة وهم المستشارون اسماعيل عوض اسماعيل ووجدي محمد عبدالمنعم.. تلك العبارات اعادت للأذهان الحوار الذي جري بين سيدنا محمد - صلي الله عليه وسلم - ومعاذ بن جبل حين بعثه ليتولي مسئولية الحكم وإدارة شئون اليمن. والرسول موجها حديثه لمعاذ.. بم تقضي بين الناس إذا "حدثت مشكلة" وبنص الحديث إذا عَنَّ لك قضاء؟! - معاذ: بكتاب الله. - الرسول: فإن لم تجد؟ - معاذ: بسنة رسول الله - صلي الله عليه وسلم. - الرسول: فإن لم تجد؟ - معاذ: أجتهد رأيي ولا أقصر. بعد هذه الاجابة المعبرة بصدق عن قيم الإسلام ضرب رسول الله صلي الله عليه وسلم معاذاً في صدره معبراً عن حبه وتقديره لرجل استطاع تقدير أمانة المسئولية حق قدرها وهنا اطمأن رسول الله صلي الله عليه وسلم وبدا البشر في وجهه لأنه اختار رجلا يستطيع تحقيق العدل بين الناس بضمير يقظ. خشية الله تملأ قلبه والسعي لإحقاق الحق شغله الشاغل! أعتقد ان هذه الثوابت قد استقرت في قلوب كثير من قضاة مصر ولذلك قال رجال القانون والقضاء: إن القضاء الجنائي قضاء اقتناع مع التزام بميزان العدل. يؤكدون استعادة رجال العدل قديما وفي العصور المتعاقبة من أمثال العلامة ابن حجر العسقلاني حيث تولي منصب القضاء منذ سنة 827ه فكان قاضي القضاة بالديار المصرية وظل يباشر هذا المنصب أكثر من 22 سنة. وقد اقتنص هذه الاساليب رجال نذروا أنفسهم لنصرة الحق وإقامة العدل بين الناس. حقيقة لقد عشت أكثر من 20 عاما في ساحات القضاء وعاصرت الكثير من القضايا والوقائع وكان رجال القضاء لا يتركون صغيرة دون تحقيقها وفي إحدي المرات سألت المستشار عبدالمنعم القاضي كيف تحقق المحكمة في واقعة صغيرة قال بكل حسم من حق المحكمة أن تحقق بنفسها في أي واقعة بل إن من حقها ان تعيد التحقيق في أي واقعة تتطلب استجلاء الحقيقة. ولذلك سعدت أيما سعادة بتلك العبارات التي أثلجت الصدر وأكدت أن في مصر رجالاً يقيمون العدل بين الناس خشية الله تملأ قلوبهم. هذه المواقف تؤكد بما لا يدع مجالا أن حقوق الإنسان وفي مقدمتها تحقيق العدل ومصان بسياج متين من المبادئ الراسخة لأن الحقوق في الإسلام لا تفريق فيها أولوية إحداها علي سواها يحكمها قول الله تعالي: "ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيبا" "الآية 1 سورة النساء". في نفس الوقت الجميع في ساحة العدل يتساوون فلا فرق بين الناس ولا مميزات لشخص علي آخر. "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم" "26 سورة البقرة" وقد استوعب قضاة مصر هذه الحقائق وقد شاهدت الكثير منهم وهم يستجلون الحقائق ويخبرون أي متهم بأنه في ساحة العدل يجب أن يكون مطمئن القلب والخاطر كما ان الشاهد في حماية المحكمة ويتم توفير كل الضمانات له لكي يدلي بأقواله لكشف كل الحقائق التي تنير الطريق لوضع الحقوق في نصابها وقد كان احد القضاة من الذين عاصرتهم في دور القضاء قد اصابه الاعياء نتيجة التنقيب في الأوراق وتمحيص الادلة وفحص كل الأقوال بميزان دقيق وعندما سألته لماذا كل هذا العناء؟ أجاب بأن الحق تبارك وتعالي سوف يحاسبني وماذا أقول حين أتلقي كتابي ثم تلا قول الله تعالي: "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا. اقرأ كتابك كفي بنفسك اليوم عليك حسيبا" "13. 14 الاسراء". إنها أمانة المسئولية التي يقدرها أهل الحق والعدل حق قدرها "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" إن مهمة العدل وتحقيق المساواة بين الناس مهمة شاقة وتستلزم اليقظة الدائمة والفهم الصحيح لحديث رسول الله - صلي الله عليه وسلم "القضاة ثلاثة.. قاضيان في النار وقاض في الجنة" والاخير عرف العدل وفهم الميزان بين الحق والباطق فهو يقضي عن علم وتمحيص لكل الأدلة واضعا رقابة الله نصب عينيه محتسبا أجره عند الله. لا تمييز بين البشر. القوي ضعيف في محراب العدل الحق. أحق ان يتبع. أعتقد انه يجب ان يستوعب كل إنسان تلك الكلمات التي صدرت في مستهل جلسة محكمة جنايات القاهرة التي تجري بساحتها محاكمة مبارك. وأن يتدبرها كل من ينشد الحق والعدل ولا شك ان المجتمع يزدهر بالاحكام العادلة التي أرسي دعائمها رسول الله منذ اربعة عشر قرناً. وقد آن للمرجفين أن يتوقفوا عن تناول القضاة المخلصين بألسنة حداد وان يتركوا هؤلاء الرجال في محرابهم لكي يتمتع الجميع بالعدل والمساواة.. إن في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد.