شاهدت الفيلم الأمريكي "لنكولن" في حفلة السادسة يوم الأربعاء الماضي في قاعة خالية إلا من سبع متفرجين. أربع نساء وثلاثة رجال!! من الواضح أن الجميع ينتمون إلي نخبة النخبة فهذا مايوحي به مظهرهم. خاصة النساء. الغريب في الأمر أن الفيلم فاز منذ أيام معدودة "24 فبراير الماضي" بعدد كبير من جوائز الأوسكار ومنها جائزة أفضل فيلم. ونال من الدعاية هنا علي أثر إذاعة الاحتفال ما يكفي لإثارة فضول جمهور السينما وحثهم علي مشاهدة الفيلم الذي حصل بطله دانييل داي لويس علي جائزة أفضل ممثل للمرة الثالثة ضارباً رقماً قياسياً وسط من فاز وبالفعل بأكبر جائزة في مجال التمثيل علي مستوي العالم. معني ذلك أن الدعاية وحدها لا تكفي لإنجاح فيلم لا يتسق مع توقعات جماهير السينما هنا في مصر ولا يتفق مع مفهوم الترفيه السينمائي. ولا يرضي المزاج العام لهذا الجمهور.. وهنا أدلل بفيلم مصري حصل بدورة علي قدر هائل من الدعاية مع الفارق عندما اختير لتمثيل مصر في مسابقة مهرجان كان كاسراً حالة الجمود الذي أصيبت به السينما الوطنية التي توقفت عن تمثيل بلادها في المحافل الدولية الكبيرة. ومن الواضح أنني أشير إلي فيلم "بعد الموقعة" للمخرج يسري نصر الله الذي فشل تجارياً عند عرضه في القاهرة بعد اشتراكه في "كان" بفرنسا. الأمر الآخر الذي يدل عليه انصراف جمهور السينما عن فيلم ممتاز مثل "لنكولن" أن القاعدة الكبيرة للجمهور الذي يعتبر المخرج ستيفن سبليرج عبقرية فترة وملك من ملوك الترفيه السينمائي وتذكروا أفلامه "إي تي" و"جوراسيك بارك" أقول أن هذه القاعدة لا تضم نسبة كبيرة من رواد السينما المصريين فالأفلام تنتقي جماهيرها وتناديهم و"لنكولن" علي أهميته لم يغر إلا النخبة المصرية من المثقفين والمهتمين بالتاريخ وبالسينما كوسيط فكري وثقافي وحضاري. و"لينكولن" هو محرر العبيد في أمريكا وخاض تجربة صعبة جداً من أجل الوصول إلي هذا الانجاز. الأمر الثالث أن النقد والنقاد ليس لهم تأثير يذكر بالنسبة لجمهور لا "يقرأ" الفيلم وإنما يستقبله باسترخاء كوسيلة للانبساط السريع والنشوة اللحظية والانفعالات الشعورية الزائلة.. وفيلم "لنكولن" حظي باستقبال جماهيري ونقدي رائع ولكن في الولاياتالمتحدة وفي أوروبا منذ أن بدأ عرض العام في أمريكا ثم في انجلترا في يناير 2013. وحظي بجوائز الجولدن جلوب كأحسن فيلم وأحسن ممثل وأحسن مخرج. ورشح ل 12 جائزة أوسكار وحقق تجارياً أكثر من 253 مليون دولار في الأسابيع القليلة منذ بداية عرضه. كل هذه الحصيلة الأدبية والمادية لا تُغري الجماهير في بلادنا. إن المعني الأكثر إثارة للحزن بالنسبة لي شخصياً أن فيلماً بهذا المستوي الفكري والسياسي والفني مثل "لينكولن" لن يستوعبه النسبة الأكبر من جمهور السينما الاستهلاكية في مصر. السينما سريعة التعليب. عديمة القيمة في معظمها ولقد ألح هذا الخاطر طوال متابعتي للفيلم وسط جمهور لا يزيد علي نصف الدستة إلا بواحد.. انه أي الفيلم بمثابة تدريب ذهني وفكري للمتفرج بينما يتابع الحوار السياسي بابعاده الاقتصادية والاجتماعية بين رجال الكونجرس. وأعضاء من الحزب الديمقراطي ومن الحزب الجمهوري بمواقفهم المتصارعة حول تمرير القانون. أنه أيضاً اعادة اكتشاف لمعني الحرية عندما يؤكد الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة ابراهام لينكولن أمام الدائرة الضيقة من الرجال النافذين المحيطين به من زعماء الساسة الرأسماليين: "إنكم تعيشون في وهم الحرية.. لأن الحرية للبيض مع استعباد السود تلغي معني الحرية. فالحرية تعني المساواة المطلقة بين الجميع دون تمييز. وإذا كان الاستعباد ليس خطيئة اذن لا توجد خطيئة أيضاً يحتفي الفيلم بمعني الديمقراطية وتعيه أن يكون الرئيس الحاكم صاحب أعلي سلطة "إنساناً" حكيماً ثاقب النظر حاد البصيرة.. في نهاية الفيلم نسمع عن مقتل لينكولن ونراه ممدداً علي السرير وقد فارق الحياة ولكنه لم يمت! والدليل وجود "أوباما" علي قمة السلطة في ولاية ثانية كرئيس أسود للولايات المتحدة مثل هذه الأفلام المعُلمِه التي تعيد اكتشاف لحظات من التاريخ البشري. هي في جوهرها أعمال مُمتعة. وليست مجرد دروس جافة. فالفيلم إلي جانب الحوارات البليغة يقدم صورة عن بشاعة الحرب من شأنها أن تسكن الذاكرة وأعني صور بقايا الجثث وأكوام القتلي من البشر الذين سقطوا في الحرب الأهلية الأمريكية الطاحنة التي التهمت عشرات المئات من أبناء الجانبين "الشمال والجنوب". أداء دانييل داي لويس لشخصية ابراهام لينكولن درس عملي فذ في طريقة الأداء التمثيلي في كيفية أن يذوب الممثل في الشخصية التي يؤديها. أن يستحضر تفاصيل لغته لفظياً وحركياً. وايقاع مشيته وأسلوبه وما توحي به هيئته. وتضاريس مشاعره صعوداً وهبوطاً دون أن تفلت منه حركة أو لغته أو أي تفصيلة خارج شكل ومضمون الشخصية.. مراقبة هذا الإبداع التمثيلي متعة لهواة السينما كإبداع مُركب ومتناغم ومتسق مع الموضوع وجوهر الرسالة التي ينطوي عليها. واللافت أن فيلم "لينكولن" ليس هو الفيلم الوحيد في قائمة أفلام المخرج ستيفن سبلبرج الذي يتعرض لموضوع العبودية والاستغلال المروع لتجارة الأفارقة الذين كان يتم أسرهم وخطفهم من بلادهم ونقلهم إلي أمريكا. نتذكر فيلم أميستاد "1997" "Amistad) وهو أيضاً دراما تاريخية تقوم علي حادثة واقعية وهي واقعة التمرد الذي قام به العبيد الأفارقة عام 1839 الذين تم اختطافهم وشحنهم في الباخرة "اميستاد" أمام سواحل كوبا وتفاصيل الرحلة إلي الولاياتالمتحدة ثم المعركة القانونية التي تلت هذا الأسر والتي تدخل فيها الرئيس الأمريكي جون كويذس ادامز. ونلاحظ أن تاريخ الأحداث ليس بعيداً عن تاريخ الأحداث في فيلم لينكولن "1865" وأن قضية التحرير والثورة علي العبودية ومحاولات التمرد أمام عمليات الاختطاف والاستغلال.. الخ قد بدأت ارهاصاتها قبل تولي الرئيس لينكولن. أخرج ستيفن سبلبرج أيضاً فيلم "اللون القرمزي" "1985" الذي يحكي تجربة أخري تروي حكايات الزنوج في المجتمع الأمريكي ورغم نجاح الفيلم نقدياً وتجارياً أيضاً اتذكر أنه لم ينجح عند عرضه هنا في مصر.. اللافت أيضاً أن موضوع العبودية يطرح نفسه الآن في هذا التوقيت من خلال فيلم آخر مهم تم ترشيحه للأوسكار كذلك "2013" بعنوان "دجانجو طليقاً" "unbonnd Django) للمخرج كونتين ترانتيرو الذي قد يكون أكثر حظاً مع الجمهور المصري. هذا إذا تم تمريره رقابياً نظراً للعنف المفرط الذي تتميز به أفلام هذا المخرج "أدب رخيص كلاب الحراسة". والعنوان يشير إلي اسم "البطل" الذي أراد المخرج أن يصنع من خلاله عملاً يضاهي نوعية من أفلام "الكاوبوي" والفيلم ينطوي علي جرعات من العنف تتجاوز ما قدمه المخرج في أفلامه السابقة متمثلاً في تجار العبيد المصابين تبرعات سادية وعنصرية مردعة. بعض المشاهد في هذا الفيلم تذكرنا بمرحلة من أحلك وأقذر المراحل في التاريخ الأمريكي وذلك حين يستحضر صوراً من الوحشية المردعة التي كانت تمارس يومياً علي الأفارقة السود "العبيد" وبعض هذه المشاهد مأخوذة من السجلات التاريخية وبعضها مأخوذ من الحكايات المتداولة عن أجيال عاشت ونقلت فظاعة ماعاشته لأحفادها. وترانتينو لا يقدم العنف الوحشي لذاته أو بهدف الاثارة وإنما كدليل دامغ علي القسوة والسادية واللا إنسانية المدمرة.. ويعالجه بأسلوب خاص وكأنه يعزف علي أوتار من جلود ودماء الضحايا. والمفارقة المؤلمة أن العبودية التي ألغيت رسمياً وبحكم القانون والدستور في الولاياتالمتحدة فضلاً عن أشكال الوحشية التي صورها المخرجون الأمريكيون في الأفلام كخطيئة كبري في تاريخ أمريكا يندي لها الجبين. انتقلت من داخل الولاياتالمتحدة إلي خارجها علي يد الإدارات الأمريكية المتعاقبة انتقلت إلي دول العالم التي استحلت أمريكا العظمي استعبادها بأساليب حديثة لا تقل وحشية. وصدرتها إلينا نحن في شكل قنابل مسيلة للدموع صنعت في أمريكا. أو في شكل قنابل مُسيلة للدموع وللدماء يسقط علي أثرها الثوار في ميادين التحرير الآن.. وستيفن سبلبرج المخرج العبقري الذي أدان اشكال الظلم ومنها العبودية والنازية لم يستهجن الصهيونية ولم يجد في إسرائيل معادلاً لهذه القوي الظالمة في تعاملها مع الأبناء الأصليين في فلسطينالمحتلة.. فمتي تري "لينكولن" في طبعة جديدة تدين أشكال الاستعباد داخل وخارج الولاياتالمتحدة.. تلغي الاستعمار والاستيطان وتنتصر للحرية في العالم!! * "