ابراهام لينكولن هو واحد من الذين شكلوا تعريف كلمة «الرئيس» سواء فى تاريخ السياسة الأمريكية أو العالم. وعندما يختاره المخرج ستيفن سبيلبرج، صاحب أنجح الأفلام وأكثرها تحقيقا للإيرادات، لصنع فيلم عنه فلابد أن لديه أسبابا قوية لذلك. يبدو أيضا أن هناك علاقة بين الحاضر والزمن الذى عاش فيه لينكولن هى التى تستدعى ذكراه، فمن المدهش أنه كان بطلا لفيلم آخر ظهر هذا العام بعنوان «ابراهام لينكولن صائد مصاصى الدماء»، يدور فى قالب «فانتازى» متخيلا أن لينكولن كان يمارس صيد وقتل مصاصى الدماء منذ طفولته، وعندما يتولى الرئاسة يكتشف أن مصاصى الدماء انضموا إلى أعدائه من المنشقين خلال الحرب الأهلية الأمريكية!
لينكولن، الذى تولى منصب الرئيس خلال مرحلة من أصعب لحظات التاريخ الأمريكي، من 1861 إلى 1865، يعد واحدا من صناع وأبطال هذا التاريخ. أهم إنجازاته القضاء على العبودية وتجارة الرقيق، وخوضه لحرب أهلية مدمرة فى سبيل هذا الهدف النبيل، استطاع أن يخرج منها منتصرا بعد أيام من استسلام الجنوب، وبعد شهور معدودة من توليه فترة رئاسته الثانية.
اختار صناع فيلم «لينكولن»، المرشح لاثنتى عشرة جائزة أوسكار، الشهور الأخيرة فقط من حياة الرئيس، من أول يناير إلى منتصف إبريل 1865، مع اليوم الأول لتولية فترة رئاسته الثانية، وبعد عامين من الحرب الأهلية التى تشهد معركتها الحاسمة الأخيرة فى بيتسبرج، وخلال معركة سياسية طاحنة فى الكونجرس من أجل تعديل المادة الثالثة عشرة الخاصة بالمساواة بين المواطنين.. ثلاثة أشهر ونصف الشهر هى الأخطر فى حياة لينكولن وربما أمريكا كلها.
ما الذى يجعل من لينكولن رمزا لما تعنيه كلمة «رئيس» وما سر عشق الشعب الأمريكى له وغرام الأعمال الدرامية والسينمائية به، حيث ظهر فى ما يقرب من ثلاثين فيلما حتى الآن؟
الإجابة ببساطة أنه ساهم فى تشكيل صورة أمته ووعيها بنفسها باعتبارها بلد الحرية والمساواة وسيادة القانون. لم ينظر لينكولن تحت قدميه كما يفعل الجميع، ولم يخش أن يعرض رئاسته أو حياته للخطر وهو يصر على أن يقيم دولة العدل مهما كان حجم المقاومة من قبل قوى الرجعية السياسية والدينية والعرقية والجنسية.
أدرك لينكولن، وهو رجل قانون بالأساس، أن الدستور الأمريكى لا يقر المساواة وأن فقرة واحدة من مادة واحدة فى دستور يمكن أن تشل وتعيق أمة كاملة عن التقدم وخوض تحديات المستقبل. أدرك أن نظام العبودية والتمييز بين الناس على أساس عرقى أو جنسى أصبح من الماضى حتى لو كانت الأغلبية لا تزال مقتنعة به، فقرر أن يخوض حربا شرسة ضد الماضى مهما كان حجم التضحيات والخطر، ولم يكن يرمى من وراء ذلك إلى مصلحة شخصية أو مصلحة وقتية للأمة، لأنه كان يدرك أن التعديل الذى سيجريه على الدستور لن يجلب سوى المتاعب سواء قبل أو حتى بعد إقراره، ولكنه كان يعلم يقينا أن الأمة مريضة بالتعصب وأن التعديل هو العلاج الوحيد لهذا المرض من أجل المستقبل!
من يشاهد الفيلم سوف يفاجأ أيضا بأن العالم، منذ أقل من قرن ونصف القرن فقط، كان يعيش فى ظلام دامس من التعصب واستعباد السود والنساء لدرجة أنه أثناء مناقشة تعديل الدستور لمنع العبودية يسأل أحد أعضاء الكونجرس متهكما: هل معنى ذلك أن السود يمكن أن يحصلوا على حق التصويت، وبعدهم يمكن أن يلحقهم النساء أيضا فتضج القاعة بالصراخ الشديد من صدمة وغرابة الفكرة!
المخرج ستيفن سبيلبرج الذى بدأ حياته الفنية الخصبة منذ السبعينيات بأفلام تجارية من نوعية «الفك المفترس» و«إنديانا جونز» و«إى تى» وصولا إلى «حديقة الديناصورات» فى بداية التسعينيات، استطاع أن يغير جلده بعد ذلك وأن يقدم بجانب الأعمال الترفيهية عددا من الأفلام الفنية الثقيلة مثل «قائمة شندلر» و«إنقاذ الجندى رايان» و«الذكاء الاصطناعى» و«ميونخ». وسبيلبرج لديه ولع خاص بموضوع العبودية واضطهاد السود ظهر من قبل فى فيلميه «اللون القرمزى» و«أميستاد»، وسبيلبرج من الفنانين الذين يزدادون تمكنا من أدواتهم بمرور الوقت، والذين لا تؤثر الشيخوخة على موهبتهم بل تزيدها صقلا.
نفس الأمر ينطبق على الممثل الأيرلندى البريطانى دانيال داى لويس، الذى يعيد تعريف مهنة التمثيل مع كل دور جديد يلعبه. ورغم أن العشرات لعبوا دور لينكولن من قبل، إلا أن أداء داى لويس له شىء مختلف تماما. داى لويس رشح لجائزة الأوسكار خمس مرات، وحصل منها على اثنتين، ومن شبه المؤكد أنه سيحصل عن أدائه لدور لينكولن على الثالثة!
مع ذلك فهناك ملاحظة لا بد منها: أداء داى لويس الرائع لم يكن له أن يتحقق بدون مساعدة الممثلين الآخرين بجواره، ولم يكن له ليبرز بدون أن يكون مستوى التمثيل كله مرتفعا فى الفيلم، حتى لدى أصغر ممثل أو كومبارس، وهذه النقطة تغيب عن أذهان معظم مخرجينا الذين يهتمون فقط بالنجم والشخصيات الرئيسية.
ومع أن النجمة الكبيرة سالى فيلد تلعب فى الفيلم دورا ثانويا باعتبارها زوجة الرئيس التى تظهر معه فى بعض المشاهد، إلا أنها تحيل هذه المشاهد القليلة إلى عاصفة نارية من الأداء، ومن المتوقع أيضا أن تفوز بأوسكارها الثالث عن هذا الدور!