لم يأت محمود.. رددت العبارة بعد نجاحي في نطقها.. يبدو قبر أبي بشاهده العالي وسط المقابر التي تعبرها السيارة ليلاً. ووجه أبي كأنه يطالعني بحزنه. كان الطريق مظلماً. والجو قارصاً. خذلني محمود مرة أخري: أنا مشغول. عودي بمفردك. أعاني البرد والقلق والخوف. تقول أمنا: بكره يا بنات أخوكم ييجي وأرمي الحمل عليه. بكره يا شمس مش هتخافي من طريق المقابر هيكون أخوك جنبك. جاء محمود بعد أن زاد شوقنا له. وللمزايا التي سننالها بقدومه. صرنا كلنا عشاقه. ثم خدمه. فأشياءه. كلنا لمحمود. أختي الكبري تزوجت من تكره من أجل محمود. لم أدخل الجامعة وعملت في تلك الصيدلية النائية من أجل محمود. أما الصغيرتان فقد لزمتا البيت من أجل خدمته. لم نكن نعرف أننا نضحي. فقد كنا نحب. بعد خمسة وعشرين عاماً من قدوم محمود. صرت خلالها عانساً. وبلغت أمي- التي لم تبلغ الأربعين- عجوزاً. وانشغلت من كانتا صغيرتين بلقمة العيش. أنفاس أمي اللاهثة تجاهد المرض: علشانكم يا بنات.. اتمنيت أخ يسندكم. تغمض عينيها: أسيبكم مع أخوكم. ها هو يستعد لزفافه. أخشي أن تضيق الشقة بنا. أهرع إلي البيت المظلم أنادي: محمود.. محمود.. أعد الطوابق الثلاثة: محمود. أدير المفتاح في ثقب الباب. أصرخ: محمود! مني سالمان