فيلم "الحفلة" ينتمي للنوعية الاكثر شيوعا وقبولا في الانتاج السينمائي السائد. ولكنها النوعية التي تحتاج إلي جودة في التنفيذ حتي تحقق التأثير المتوقع.. وأنا أعني نوعية الفيلم الإثاري "Thriller" الذي يقوم علي حبكة بوليسية تضع المتلقي أمام لغز غامض لا يستطيع أن يصل إلي حله من أول وهلة وانما عليه أن يتابع الأحداث حتي آخرها. العناصر التي تعتمد عليها مثل هذه النوعية هي تلك التي تدفع بمادة الإدرينالين في الدم وترفع حرارة الفرجة وهي تحديدا الغموض. والتوتر والقلق والتشويق والتخمين والخوف الخ. وهذه العناصر نفسها ترتبط دراميا بعملية التفاعل المتبادل بين الأحداث علي الشاشة والمتفرجين في الصالة الأمر الذي يتطلب حبكة قصصية محكمة وقادرة علي إبقاء أو من ارتكب الجريمة المحركة لقد انتجت السينما مئات الافلام من هذه النوعية ولعل اشهرها الافلام التي اخرجها الفريد هتشكوك ومدرسته التي التحق بها كثيرون جدا علي امتداد العالم. ومخرج فيلم "الحفلة" حرص أن يوفر هذه العناصر ويضعها داخل إطار قصصي متماسك ونجح المؤلف وائل عبدالله أن يصمم الباترون المناسب للمادة الموضوعية التي يعالجها ويعتمد في معالجتها علي الشكل البوليسي التقليدي: الجريمة والتحقيقات للوصول إلي فاعلها. الحكاية تبدأ أثناء مشوار قصير إلي احد المجمعات التجارية الحديثة والشهيرة لشراء نوع معين من الزيتون المخلل للزوجة الدلوعة سحر حسين حجازي "روبي" حيث انها حامل في الشهور الأولي "وبتتوحم" يصحبها في السيارة زوجها شريف "أحمد عز" وبعد انتظار يطول داخل السيارة لا تعود الزوجة. وبعد عملية بحث داخل المحل والسؤال ومحاولات الاتصال بها نعرف انها تعرضت للاختطاف ثم لاحقا يتصل الجاني مطالبا بعشرة مليون جنيه مقابل عودتها سالمة. و "سحر" من أسرة ثرية. تعيش داخل مجمع سكني في احدي المجتمعات الحديثة. وزوجها شريف يعمل في البورصة ويحقق دخلا كبيرا يوفر الفيلا والسيارة والحياة السهلة مثلما يوفر الصداقات والعلاقات الاجتماعية وتنظيم الحفلات الصاخبة التي تتحول إلي مسرح لإقامة الصفقات والايقاع بالرجال بالإضافة إلي الرقص والغناء وتدخين المخدرات وتعاطي الخمور. "نهاد" والدة سحر "مها أبوعوف" متزوجة من "مراد" رجل أعمال داهية يعتبر سحر بمثابة إبنته وقد استطاع أن يجمع ثروتها وثروة أمها مع ما يملكه ويضعها في دائرة نفوذه. ومن الجيران في هذه التوليفة الاجتماعية زوجين "دينا الشربيني" و "علاء حسن" الاولي حاملة اسرار سحر والثاني موظف في بنك يدفعه الطموح إلي التزوير وإلي نشاطات اخري ليست مشروعة. وتعتبر "الحفلة" التي تضم جميع الشخصيات تقريبا الحدث المركزي الذي ترسم المخرج من خلاله بورتريهات سريعة لكل شخصية ويشير إلي السمات العامة التي تجمع بين هؤلاء الذين يمثلون الشريح التي تملك المال والعلاقات النافذة. وبذور الفساد وثماره ومنها الجريمة. ومن بين نساء "الحفلة" البارزات شخصية نانسي "جومانا مراد" السيدة الشقراء الجميلة المطلقة التي غالبا ما تنجح في اصطياد الاثرياء وتتزوجهم لفترة ثم تنفصل بعد حصولها علي تعويض مادي كبير مقابل متعة الارتباط بها. وتسبب عملية الاختطاف إرباكا للجميع وتجعل "الحفلة" التي كانت تجمعهم محل اهتمام الضابط فاروق "محمد رجب" الذي يصر بعد تكليفه شخصيا بعمل التحقيقات اللازمة لتحديد المجرم ومكان الجريمة ودوافعها التي اختزلت في البداية في الحصول علي عشرة ملايين جنيه ولم تظهر الدوافع الحقيقية لإرتكابها ومن الذي قام بتنفيذها. ويبدأ ضابط التحقيقات في استجواب الجميع دون النظر إلي اي اعتبارات ومن ثم يدخل دائرة الشكوك المحيطة بجريمة الاختطاف زوج الأم "مراد" نفسه رغم أنه شخصية معروفة. ورجل أعمال واسع الثراء لكنه علي علاقة مشبوهة بسكرتيرته التي تصغرة بسنوات وقد جمع أموال الضحية "سحر" بعد أن ورثت ثروة كبيرة من أبيها المتوفي. الطرف الآخر المقابل من الطبيعي في هذا النوع من الحكايات البوليسية أن يحتل رجل الشرطة "محمد رجب" دور البارز والمتميز في عملية التحقيق الجنائي بحيث يصبح القوة المقابلة لقوي الفساد الضالعة في الجريمة. ويعتمد كاتب السيناريو علي ما يعيد إلي الاذهان سيناريو فيلم "راشمون" "1950" للمخرج الياباني الاشهر اكيرا كيروساوا. أي علي وجهات النظر العديدة التي تري الحدث المحوري الواحد من زوايا نظر متعددة. ولكن في راشمون يخضع التحقيق لمنظور فلسفي يبحث عن "الحقيقية" في جريمة غامضة والتي دائما ما تكون مراوغة. حيث لا يوجد حقيقة مطلقة وفي حالة فيلم "الحفلة" هناك قاتل محدد ولديه دوافعه التي تبرر الجريمة التي قام بها ولكننا لم نعرفه بعد الضحية بالجيران بالأصدقاء بالمعارف وبالمصور الذي قام بتصويره. وفي كل مرة يعود إلي إستعادة ما حدث أثناء "الحفلة" التي جرت وقائعها داخل منزل السيدة "نانسي" وتبدأ عملية التذكر من كل مرة مع بداية الاغنية الشعبية الفرانكو آراب جو توهل "إذهبي للجحيم" أنا بيك لا حزيد ولا أقل" التي إختارها المخرج ربما للتعليق علي تفاهة وزيف هذا العالم المصقول الفالصو من حيث الجوهر. ومع تعدد وجهات النظر حول "الحفلة" حرص السيناريست أن يبقي علي دائرة الشكوك والاحتمالات مفتوحة للظنون وأن يغذيها بتفاصيل صغيرة مضللة تستبعد الفاعل الحقيقي وتضعه خارج الدائرة حتي اللحظة الأخيرة المفاجئة والمثيرة للدهشة وكذلك حرص علي ان يبقي علي استمرارية الجريمة لأن دوافعها المحركة تتكرر مع الزوجة الثانية وهي تحديداً يالخيانة الزوجية". فالزوج الوسيم "شريف" المكتمل الرجولة شكلا هو في حقيقة الأمر "عاقر" لا ينجب حسب التحاليل الطبية ومعني ذلك أن الجنين الذي تحمله الزوجة ليس من صلبه وأنها خائنة ومن ثم تستحق القتل ونفس الشيء يحدث مع الزوجة الثانية سكرتيرة "مراد" التي أقام علاقة معها وتزوجها وأدعت بدورها أنها حامل. جميع النساء في هذا الفيلم مُدانات. وشخصيات خائنة ومنحرفة أي أنها نماذج بعيدة عن المرأة المصرية العادية. فهن من وجه نظر صناع الفيلم مخلوقات كاذبة ومنافقة. والاغنية المتكررة تكرس هذا المعني. والمرأة الوحيدة الطيبة هي الفقيرة والمظلومة التي تعمل خادمة في بيوت هؤلاء النسوة.. وأنا أشير هنا إلي شخصية خادمة "سحر" التي ذهبت إليها الضابط لأخذ اقوالها في منطقة نزله السمان. أحداث وشخصيات حكاية شيقة ومفزعة "الحفلة" يمكن أن تحدث في أي زمان ومكان وكذلك فعل الخيانة الزوجية. والشريحة الاجتماعية التي قدم نماذجها الفاسدة والخاوية كثيرة الظهور وبلا خصوصية تمنحها ملامح التفرد. وكلمة "الاختطاف" التي بدأت تروج في لغة الاعلام المرئ والمقروء وفي الخطاب اليومي للمصريين مرتبطة في الواقع بسياق مجتمعي وظروف مرحلة زمنية شديدة الخصوصية سياسيا واجتماعيا. ولا علاقة لها من قريب أو بعيد باجواء "الحفلة" كما صورها صُناع الفيلم وربما كان من المفيد ان يشاهد الجمهور المصري فيلم شيق ومسلي يبدو المناخ الكئيب والمشحون بالاحباط والحزن اختار المخرج الشاب قالب بوليسي بعيد عن مشاغل الناس في هذه الحقبة المعبأة بشتي انواع المشكلات الحياتية والقضايا الجادة التي تؤرق الناي وتبدد الأمان بعد "الثورة" فجرت في بدايتها احلاما واشواقا للحرية والعدل وفضل عمل فيلم ينحاز إلي السينما الهروبية الشبيهة بالكلمات المتقطعة لا تترك أثرا ولا تحرك وعيا ولا تبشر بشيء. ينتهي تأثيرها فور الانتهاء من الفرجة عليها. ورغم أي شيء فمن أمام عمل تجاري متقن إلي حد كبير. وبمثابة شهادة عن مخرج دارس لغة الصورة ولديه امكانيات يجيد التعمل معها ولديه أسلوب يظهر في تناوله لعنصر الحركة وخلق ايقاع سريع يحمل بصرية قصيرة تلعب فيها الكاميرا وزاويا التصوير ومدة اللقطة وتكرارها دورا يكرس عنصر الاثارة ويبقي علي اهتمام المتفرج بالشخصيات الضالعة في الجريمة أو المحتمل ضلوعها في عملية الاختطاف. ومن اللافت اسلوب اداء الممثل وهنا اشارك البعض ممن اشادوا باداء محمد رجب في تجسيد شخصية الضابط فاروق عبدالكريم الذي جمع بين خفة الحركة والرشاقة وسرعة التجاوب مع معطيات المشهد والاندماج في عملية التحقيق باختصار يقدم محمد رجب صورة ليست بأي حال قريبة من الصورة الشائعة الآن عن رجل الشرطة.. مما يعني أن المخرج والسيناريست يصدران للمتفرج المصري في هذه الحقبة التي نعيشها صورة نقيضة تماما لصورة الشخصية نفسها علي ارض الواقع الذي نعيشه. يطول الاداء التمثيلي الجيد اسلوب جومانا مراد التي لعبت شخصية "نانسي" باقتصاد وذكاء في التعبير والحركة والصوت. اختفت الضحكات المتبذلة النمطية التي تلازمت مع صورة "اللعوب" في الفيلم التجاري المصري. واختفت معها اشكال الابتذال في اداء الحوار ولغة الجسد. واكتفي المخرج بلقطة "خلع الحذاء" التي تتكرر في كل مرة يعود فيها إلي "الحفلة" لرصد وقائعها. وراهن المخرج علي البطل المعتاد لهذه النوعية "أحمد عز" واكتفي بتقديم محدود ودال للمثلة "روبي" في دور سحر التي لقت حتفها ويعتبر الفيلم خطوة اكثر تقدما في مشوار المخرج علي المستوي التقني وبالذات في مجال المونتاج وتوظيف الاضاءة والموسيقي "عمرو اسماعيل".. العناصر الثلاثة كونت المعادل البصري والسمعي المناسب لهذه النوعية من الافلام.