للموت معى منذ الطفولة قصص وحكايات . حينما مات جدى بمضاعفات مرض السكر وأنا فى العاشرة من عمرى تخيلت أن ذلك المرض هو تلك الصورة التى يهجم بها الموت على من يبتغى فكرهته . وحينما مات ابن خال لأمى- وقد كان بنفس الوقت زميلا لى فى ذات الفصل الدراسى- بمرض اللوكيميا , عدت أرى الموت هذه المرة بصورة أخرى أكثر بشاعة فكرهته. وحينما ماتت صديقتى الطيبة ووالدتها تحت أنقاض منزلهما المتهالك عَلَّقْتُ صورة أخرى للموت على جدار ذاكرتى الشاحب . وماتت جدتى بالشيخوخة القهرية , وماتت صديقتى الأخرى بالالتهاب الفيروسى تاركة أطفالا كزهور البنفسج , ومات صديق الأسرة الشاب وطفلاه الصغيران فى حادث سيارة مأساوى , واهترأ الجدار الشاحب من وطأة ما علق به من صور عدة لذات الكيان الذى يتقن التنكر فى كل مرة بحرفية عالية.ومات أبى . هجم عليه صاحبنا هذه المرة بغتة بوجهٍ كئيبٍ فاجتث بهجة الحياة .تثاقل الجدار وصرتُ أنا كالمصفاة التى تسرب من بين ثقوبها كل ما هو ناعمٍ ورقيق ولم يتبقَّ بقلبها إلا الحصى.ترى بأى صورة من تلك الصور العالقة بالجدار ستأتينى يا صديقى؟ذلك هو السؤال الموجع الذى يطبق على أنفاس وسادتى كل مساء فيصيبها بالاختناق .وبأى حال سأكون إذا ما فاجَأْتَنِى ذات انشغال؟وهذا هو السؤال الأكثر وجعاً.هل سأكون فى مطبخى أعد لزوجى طعام الغداء؟هل سأكون بين تلاميذى أحدثهم عن الماضى البسيط والمضارع الأكثر تعقيدا؟أم أننى سأكون بإحدى الندوات الشعرية ألقى على مسامع الطيبين حروفا ذات أوجاع تربط بينى وبينهم ؟أم أننى ساعتها سأكون على سجادة الصلاة أؤدى الفريضة وبالى منشغل بعمتى المريضة وبأخى الذى لم يهاتفنى منذ حين وبأمى التى لم أزرها منذ أسبوعين؟وهل يمكننى أن أحلمَ أن تزورنى وأنا فى الميدان..أقتلع عين الجهل بِسِنِّ عقلى كأى مقاتل عنيد؟أغزو تلك الفيافى وفوق كتفى مقطفا مملوءاً بسنبلات القمح وتغاريد الفرح وطهارة الأديان؟اعْتَلِى المنبرَ وأُهْدِى اللاجئين عناقيد الضوء الإيجابي, وأمطرهم بنسائم المحبة؟ أحطم جمجمة الفقر واجْتَثُّ لسانه الذى يخرجه للكادحين؟بأى حالٍ يا موتُ ستلقانى ؟بأى حالٍ يارب سألقاك؟