قري الفيوم حالة خاصة جدا في خريطة القري المصرية القريبة من العاصمة ولا تبعد في معاناتها عما يعانيه قلب مصر.. فهي مزيج من الفقر والعجز والإهمال في أبشع صوره. جولتنا في «عزبة الأصفر» انطلقت من أمام لوحة بائسة أناس من أهل بلدنا يقاسون كل أنواع العذاب يعيشون في بيوت، يحسبها الرائي كهوفا من عهد الفراعنة، جدرانها هشة في طريقها إلي السقوط علي من فيها، وقد تلمح النساء يحملن «صفايح» مليئة بالفضلات فتلك هي الطريقة الوحيدة للتخلص من حوائجهن، فالصفيحة هي «الحمام» أو التواليت ولكنه محمول علي الرأس أو فوق الأكتاف، ولا تتعجب عندما يخبرك أهل المنطقة أنهم كثيرا ما يقضون حاجتهم في الخلاء أيضا لانعدام الصرف الصحي، أما المياه فيجلبنها من حنفيات علي مسافات متباعدة يملأن منها الأزيار الفخارية داخل بيوتهن في رحلة لا تقل عناء عما يتكبدنه في سبيل الحصول علي كل شىء بدءا من رغيف العيش حتي «التعليم». حالة من الاكتئاب عشناها مع وجوه كثيرة في القرية تجسد ملامحها الفقر والعجز عن تلبية أبسط الاحتياجات الإنسانية. رائحة غريبة لا يدركها إلا الغريب عن المكان لأن السكان فقدوا القدرة علي شمها، رغم أنها كريهة، بل قاتلة، وسببها مصنع الكيماويات التابع للقوات المسلحة الذي يقتل السكان ويصدر لهم الموت البطىء.. فكم من سيدة أجهضت بفعل أبخرة المصنع، كما أخبرتنا إحداهن فإن زوجة ابنها أجهضت أمس طفلها الذي كانت تنتظره منذ سنوات طويلة، أشارت أم عبدالرحمن إلي عدة نساء جلسن أمام أحد البيوت قالت إنهن شققن سكون الليل بصرخاتهن أمس حزنا علي محمد. أما «علية» التي كانت تزرع «قيراطين» برسيماً فقد أخفت وجهها بطرف شال أسود، وهي تبكي وعندما سألناها.. لماذا؟! أجابت بحرقة: البهايم كمان ماتت من «المصنع» وحالنا واقف وماحدش راضي ينجدنا. ليست الأبخرة السامة وحدها مسئولة عن قتل سكان هذه القرية لكن الجوع أيضا، وهذا ما يوحي به حال أسرة «فاطمة أم خليفة» التي جمعت أحفادها حول «منقد» لعمل شاي حسب عاداتهم بعد تناول الإفطار، لكن الحقيقة أن هذا الشاي مع «نص رغيف» هو نصيب كل واحد فيهم في فطار اليوم، وعندما سألتهم عن وجبة الغداء ضحكت الجدة بسخرية «مافيش غدا» هي اللقمة دي نعيش عليها طول اليوم بجنيه عيش وكيس سكر ب 6 جنيه يخلص في 3 أيام وصدقت زوجة ابنها- الذي خرج توا للبحث عن رزقه في أي مكان بالمركز- قالت: مافيش «طبيخة ولا غريفة والله العيال بيناموا من غير عشا». علي بعد أمتار من بيت «أم خليفة» كانت «ليلي» تجمع دجاجاتها في خوف شديد قالت ببساطة «البيت هيقع علي دماغنا والطير هيموت».. هذا البيت عبارة عن كهف طيني يتساقط أجزاء جافة منه باستمرار، لكن الأب طمأنها قائلا: «مش هيقع أنا عملتله مرمة من الطين» الأب المصاب بشلل نصفي لا يحصل علي أي معاش ويعتمد علي مساعدات أهل القرية لكنه قال: نفسي أي رئيس جديد يكون عنده ضمير ويضمن للغلابة معاش كويس يغنيهم عن السؤال. ومن قرية «الكعاني» القريبة من طامية وسنورس لمحنا سيدة في منتصف العمر تحمل بعضا من حزم الجرجير فوق رأسها باتجاه سوق القرية، وعندما همت بوضع حملها علي الأرض لتستريح سألناها عن حالها وأولادها فقالت في طلاقة شديدة: الحالة صعبة لكن الحمد لله.. إحنا عارفين ان البلد بيتغير وأدينا مستحملين يمكن الفقرا يلاقوا حظهم في العهد الجديد لكن للأسف نخاف يعملوا زي بتوع زمان يقولوا: إحنا مع الفقرا ويسيبونا نموت من الجوع. نفس الأحلام تراود النساء الفقيرات في قرية «بيهاموا» وعندما يكون عائل الأسرة امرأة تكون مرارة الفقر مصحوبة بالإحساس بانعدام السند و«الغم» كما عبرت نادية عباس التي مات زوجها منذ عام واحد فقط، ورغم انه كان مريضا إلا أنها تري في موته مصيبة لا تقل عن مرضه وعجزه عن العمل قالت نادية: صور الرؤساء مالية الشوارع وع البيوت وإحنا مابنعرفهمش من بعض لكن نفسنا في واحد يعرف يعني إيه «ست مسئولة عن خمس عيال عاوزين ياكلوا ويشربوا» نادية التي لم تجد غير خبز العيش الفلاحي وسيلة لإطعام أولادها تتمزق عندما يطلب منها «علي» طفلها ذو الثلاث سنوات «شوية رز وحتة لحمة» قالت أيضا: إن «الخبزة الواحدة تأخذ عنها خمسة جنيهات» يا دوب تشتري نص كيلو عدس وتشحت رغيفين أو ثلاثة من صاحبة العيش وتطعم أولادها وتضع يدها علي قلبها وهي تنتحب.. «الجوع وحش ولا حد داري بحد» ورغم ان الأراضي والفاكهة ع الشجر إلا أن أولادنا مايعرفوش طعم الحلو. وكأن الطبيعة والبشر اتفقا علي استكمال تلك المأساة التي يعيشها سكان عزبة الأصفر بالفيوم، فبالإضافة إلي الفقر وانعدام الخدمات التي يعاني منها سكان القرية، قامت القوات المسلحة بإنشاء مصنع للكيماويات بالقرب من القرية، مما أدي إلي زيادة معدلات التلوث البيئي بها وهو ما أصاب الأطفال بمرض ارتخاء الأعصاب، مما أسفر عن مصرع ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم بين عامين وثلاثة أعوام، وتعلق حليمة محمود جدة أحد هؤلاء الأطفال قائلة: ظلت ابنتي تنتظر إنجاب طفلها الأول، وحلمنا معها به حتي يملأ علينا المنزل فرحا وسعادة، وحينما كبر وبدأ في المشي سرقه الموت بسبب المصنع، حيث فوجئنا به يمتنع عن الأكل أولا، وتحدث له تشنجات، وبعد أيام فقد القدرة علي الحركة ثم سكت صوته إلي الأبد، وأضافت: المصنع قتل أطفالنا وحرق المحصول والأرض. ويلتقط عبدالله عبدالعزيز محمد أطراف الحديث مشيرا إلي أن هذا المصنع أصاب ما يقرب من 15 من أبناء القرية بالأمراض السرطانية، وأضاف كل الفقر الذي نعانيه «يهون» إلا كارثة هذا المصنع التي رفعنا شكاوي بشأنه لكل المسئولين ولم يستجب أحد. عبدالله معاق ولديه ثلاثة أطفال أكبرهم في الصف الثالث الابتدائي، ومعاشه 205 جنيهات بعد أن كان 160 جنيها قبل الثورة، يقول: كنا نعاني الفقر قبل الثورة وبعدها، فأحوالنا لم تتغير، نحن بعيدون عن أعين المسئولين وقلوبهم، لا أحد يفكر في أحوالنا، فنحن نعيش في هذه القرية بلا أدني خدمات، لا توجد مياه شرب في المنازل، إنما نحصل عليها من خلال الحنفيات العمومية الموجودة في الشارع التي أدخلناها بالجهود الذاتية منذ عدة سنوات بعد أن كنا نشرب من الترعة، ولا توجد لدينا مياه لري أراضينا، ومشروع الري في القري ساهم في تمويله العقيد القذافي قبل موته بثلاث سنوات، ونحن الآن مسئولون عن دفع رواتب الموظفين العاملين عليه، حتي نضمن وصول المياه لأراضينا. وأضاف نحن في هذه القرية نعيش في «عدم» لا عمل، ولا خدمات، ولا مستشفي، ولا مدرسة، فأطفالنا يسيرون لأكثر من 4 كيلومترات حتي يصلوا إلي مدارسهم، والعيشة غالية نار، اللحوم نأكلها في المواسم، والفواكه نراها في السوق ونشعر بالشبع، فأنا لا أملك ثمنها، فكيف أشتري التفاح ب 12 جنيها الكيلو، أو حتي البرتقال ب 3.5 جنيه، وأبنائي الثلاثة في حاجة للطعام. أم البنات وقفت بعيدا شاردة تفكر في مستقبل بناتها الخمس، ذلك المستقبل المظلم الذي لا ينبئ بخير، انها سليمة أحمد عبدالله، ذات الخمسين عاما، رأيناها شاحبة الوجه رسم الزمن علي كل ملامحه علامات الفقر والبؤس ليبدو أكبر سنا، حملت الهم صغيرة، توفي عنها الزوج تاركا لها تركة مكونة من 5 بنات و3 أبناء جميعهم في عمر الظهور، يعيشون في منزل فقير، حاله لا يختلف كثيرا عن حال من يعيشون فيه، حجراته المظلمة هي جزء من ظلمة تلك الحياة التي يعيشونها، تقول سليمة: الحمد لله، جوزت بنتين وباقي 3 ربنا يقدرني عليهم، لكن الحياة صعبة والأولاد يعملون أرزقية، أجورهم لا تكفي حتي لإطعامنا «عيش حاف» لكن الحمد لله علي كل حال. منزل سليمة لا توجد به دورة مياه، الكل يقضي حاجته في الخلاء لذلك فهي تخاف علي البنات إذا خرجن لهذه المهمة بعد المغرب ومن ثم تجبرهن علي استخدام «الجردل» لقضاء حاجتهن ليلا مثلما يحدث في السجن، ويتم تفريغه في الخلاء صباحا. وعن الطعام تقول: «بنقضيها بأي حاجة» لقمة وملح، أو عيش ومخلل، المهم نملأ بطننا وخلاص، العيشة نار حتي الجاموسة التي كنا نعيش من خيرها ماتت بسبب المصنع وأصبحنا علي الحميد المجيد! ولأن الفقر والمرض والجهل ثالوث لا يفترق أبدا، فلم تعلم سليمة أحدا من أبنائها، وقالت: من أين كنت أعلمهم وأنا لا أجد ثمن طعامهم؟ وأضافت ذهبت إحداهن لمركز محو الأمية، وخفت عليها من الخروج بالليل خاصة بعد الانفلات الأمني والبلطجية الموجودين في كل مكان، فقعدتها في البيت، وجودها جانبي أحسن وأضمن» ومن المغرب نقفل بابنا علينا، وربنا هو الحافظ. ويضيف إدريس أحمد عبدالله أصبحنا نعيش في خراب، لا نجد قوت يومنا، الأرض بارت بسبب المصنع، والبلح الذي كنا نعيش عليه اتحرق، والشهور تمر علينا بدون أن نتذوق طعم اللحوم، حتي المواشي التي كنا نربيها ونعيش من خيرها تسممت بسبب المصنع وماتت، بعدها جاءت الحمي القلاعية لتقضي علي ما تبقي لدينا، حتي أننا كنا نستدين علي «حس» بيع المواشي، فأصبحنا مديونين ولا يوجد لدينا ما نسد به هذه الديون، وأضاف أدري- والد الستة أبناء- لم يعد لدي شىء، المحاصيل التي كنا نزرعها لنأكل منها مثل: القمح والذرة احترقت تماما حتي المواشي- حينما كانت موجودة- رفضت أكلها، فأحرقناها، وأصبحنا نعيش علي إحسان المحسنين، ولأن شر البلية ما يضحك، أضاف ضاحكا: حينما نأكل اللحوم لا نغسل أيدينا حتي يعلم الناس أننا أكلنا لحمة!