تعاني مصر الآن من أزمة اقتصادية، لا تخفى على أحد، تجعل الحاذقين .. والبارعين .. ومن يروا أنفسهم مفكرين يطرحون أطروحات تعتمد في المقام الأول على "موكوس الدخل" أو ما يطلقون عليه "محدود الدخل"، فهو الذي لابد وأن يسدد كافة فواتيره، مضافة إليها عجز ميزانية بلاده، وسد ديونها بشكل أو بآخر.. المهم أن جميع المسئولين وجدوا أنه كلمة السر لحل لغز أزمة مصر الاقتصادية. لعله ذلك .. ولكن لو استدعينا من بين صفحات التاريخ، الذي يحوي كنوز المواقف حدثاً مشابهاً، أو يكاد يكون به بعض الشبه من موقف مصر الحالي. وهو الاحتياج للمال بشدة لتجهيز الجيش، في ظل ظروف صعبة وأحوال عصيبة، تخللتها تنقل الحكم من يد لأخرى، خلال فترات قصيرة، انتهت بجلوس سيف الدين قطز على عرش مصر، بينما التتار على أبواب مصر، بعد أن تغلغلوا في بلاد الإسلام وقضوا فيها على الأخضر واليابس. فرأى قطز أن يفرض على الشعب ضرائب لتجهيز الجيش، وهو ما تصدى له بشدة الشيخ الجليل العز بن عبد السلام، مقترحا حلاً أمثل، وهو تقديم كل ما يملكه قطز والأمراء من أموال وذهب وكنوز لبيت المال، وبعد أن يتساووا هم والعامة في الممتلكات، وعدم كفاية الأموال لتجهيز الجيش يتم فرض الضرائب علي الناس. وبالفعل قام قطز بالتنفيذ، حيث كان أول من وضع أمواله في سبيل الله، وأمر الوزراء والأمراء أن يفعلوا ذلك، فانصاع الجميع وامتثلوا لأمره، فقد أحضر الأمراء كافة ما يملكون من مال وحلي نسائهم، وأقسم كل واحد منهم أنه لا يملك شيئاً في الباطن، ولما جمعت هذه الأموال ضربت سكاً ونقداً وأنفقت في تجهيز الجيش. ولكن لم تكفي هذه الأموال في تغطية نفقة الجيش، فقرر قطز إقرار ضريبة على كل فرد ديناراً واحداً، وأَخذ من أجرة الأملاك شهراً واحداً، وأَخذ من أغنياء الناس والتجار زكاة أموالهم معجلاً، وأَخذ من الترك الأهلية ثلث المال، وأَخذ من الغيطان والسواقي أجرة شهر واحد، وبلغ جملة ما جمعه من الأموال أكثر من ستمائة ألف دينار. وتم تجهيز الجيش .. لينتصر المسلمون، تحت قيادة قطز، في واحدة من أشهر المعارك الإسلامية وهي "عين جالوت"، لتتحطم أسطورة التتار إلى الأبد على يد هذا "الحاكم" وبمساعدة هذا "العالِم". وهذا المشهد التاريخي العظيم لم يكن ليكون بمثل هذه المثالية والعدالة، لولا وجود حاكم يسمع للعلماء وينصاع لفتوى الحق، بل ويبدأ في تنفيذها بنفسه أولاً. وللعلم كان سيف الدين قطز، حاكما لمصر لأقل من عام، ولكنه بالرغم من قصر مدة حكمه من أشهر حكامها، حيث سطر التاريخ حروف اسمه من نور، فلم يكن طالباً لسلطة أو سلطان، وكأنه رجل أرسل خصيصا لأداء مهمة لا يقدر عليها غيره.. وهي هزيمة التتار، وهم الذين كادوا يقضون على الدولة الإسلامية، وبعد أن تحقق الانتصار العظيم، أُسدل الستار على حياة هذا البطل ليختفي من المشهد للأبد. أما العالم .. فكان العز بن عبد السلام، ذلك الرجل الذي لا يخشى في الله لومة لائم، وهو المُلقب ببائع الملوك والأمراء، وهي حادثة تاريخية لم تحدث قبله ولم تتكرر لأحد من بعده، فكان من الجرأة في الحق بأن يطالب ببيع الأمراء من المماليك في مزاد علني، وتوضع أموال بيعهم في بيت مال المسلمين، ورغم كل الصعوبات التي قابلته لتحقيق ذلك، إلا أنه أصر على فتواه وقد كان له ما أراد، ولم يتراجع لحظة لتهديد أو وعيد. والعز بن عبد السلام من نوعية العلماء الذين يعملون فقط لوجه الله، سبحانه وتعالى، وهو ما تبينه قصته هذه .. يحكى أن الأسعار ارتفعت بدمشق، وقتما كان يعيش بها، فبِيعت البساتين بأثمان قليلة، فأعطته زوجته حلي لها، وقالت: اشتر لنا به بستانا نستفيد به. فأخذها وباعها، وتصدق بثمنها كله. فقالت له: هل اشتريت لنا بستانا ؟ قال نعم: بستانا في الجنة، إني وجدت الناس في شدة فتصدقت بثمنه، فقالت له جزاك الله كل خير. بعد استعراض المشهد التاريخي السابق، هل لي أن أتخيل أن هناك عالم - ليس بالطبع من علماء السلطان – يدلى بدلوه لحل أزمة مصر الاقتصادية بمطالبة من يملكون ثروات مصر- وهي في الأساس ملكاً للمصريين، وكلنا يعلم جيدا، كيف جمع حيتان مصر أموالهم وبأي الطرق- بأن يقدموا ما يملكون لإنقاذ بلادهم التي يرتعون في خيرها. مجرد تخيل بعيد المنال، كيف يحدث ذلك؟! والكبوة التي عاشتها مصر عقب الثورة وحتى الآن، لم تكن لتحدث لولا هذه الحيتان وبطونها الواسعة، بل من أجل حماية مصالحهم سارت البلاد فيما سارت فيه، حتى لا يُمس هؤلاء ولا أموال هؤلاء.. ولعلي لست أبالغ حينما أقول أن مصر يمكنها أن تودع أزماتها للأبد، لو أن حيتانها قدموا ما يملكون لخزينة الدولة بطريقة العز بن عبد السلام .. ولكننا الآن لسنا في عصر قطز ولا عصر العز بن عبد السلام.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.