فى ذكرى السيدة أم كلثوم الأخيرة 3 فبراير، كان طبيعيًا أن تحتفى بها وسائل الإعلام كما يحدث عادة ودائمًا كل سنة وهو ما يحدث مع معظم مشاهير الفن خاصة فى الغناء والموسيقى.. وهو شىء جميل ويعكس الوجه المصرى المتسامح والمتصالح المحب للحياة.. لكن الشىء غير الجميل هو أن نغلق باب الذاكرة المصرية على الفن والموسيقى.. ليس هذا مقبولاً ولا مفهومًا.. التاريخ المصرى الحديث خاصة فى الفترة التى أعقبت ثورة 1919م مليء بالقامات الكبرى فى مجالات يفترض أنها أهم من الفن والموسيقى.. وإذا كان أهم دور للإعلام كما يقولون هو توجيه الناس ومراقبة السلطة!!.. فنحن على استعداد لغض الطرف عن الشق الثانى لأسباب مفهومة.. فما بال شق توجيه الناس غائب ومختف وإن حدث ففى اتجاه يدفع الناس إلى الخفة والتسطيح والغياب والمزيد تلو المزيد من الهيصة والزيطة أو الهرج والمرج كما قال بن خلدون عن المصريين. أتصور أن الإعلام له دور كبير فى النهوض بالعقل والوعى لدى بسطاء الناس الذى أصبح السماع والفُرجة بالنسبة لهم هى كل أدواتهم فى المعرفة.. ومن حسن حظ المصريين أن الثلاثينيات والاربعينيات كانت من الثراء الفكرى والسياسى والفنى إلى الحد الذى يجعلهم فى حال تذكر دائم ومدد دائم بالنماذج والعبقريات التى تستحثهم على البحث فى ذاتهم اكتشافًا واقتداء لتكون مصر بحق كما يريد لها أبناؤها وقادتها (تاج على مفرق الشرق) كما شدت أم كلثوم من أشعار حافظ ابراهيم.. وأذكر أنى كتبت مقالاً فى ذكرى العقاد وعبد المنعم رياض بعنوان (هدية لذاكرة المصريين) تلقيت بعد نشره اتصالات وإيميلات كثيرة من النابهين المصريين فى الداخل والخارج.. لا للمقال فى حد ذاته ولكن لذكرى عزيزة وعظيمة لاثنين من كبار رجال التاريخ المصرى الحديث أحدهما فى الفكر والآخر فى العلوم الاستراتيجية والعسكرية.. وأنا أدعو كل المثقفين الذين تتاح لهم فرصة الكتابة أن ينتهزوا كل فرصة ليصافحوا ذاكرة المصريين بمثل هذه الإهداءات العظيمة .. فى 4 فبراير الماضى كانت ذكرى ميلاد عبقرية ضخمة فى مجال من أخطر مجالات الاستراتيجية وهو الجغرافيا، ولن يصعب على أى مثقف أن يعرف أنه العلامة (جمال حمدان) ..صاحب ال(29 كتابًا و79 بحثًا ومقالة) فى الجغرافيا السياسية والسكانية وما يتصل بهما.. كان العلامة جمال حمدان قد لمع وتلألأ اسمه بعد ثلاثة كتب(جغرافيا المدن) و(المظاهر الجغرافية لمجموعة مدينة الخرطوم) (المدينة المثلثة) ونال جائزه الدولة التشجيعيه1959م عنها.. وكانت الجامعة فى ذلك الوقت بدأت مشوار الخروج من قائمة أفضل مائة جامعة الذى تشهده الآن.. إذ كان الأمنى والسياسى قد تغلغل فيها(على حد وصف الراحل عبد العظيم انيس).. وبعد أن اشتهر ولمع اسمه تم تخطيه فى الترقية لوظيفة أستاذ(1963م).. فقرر الاستقالة.. والاستقالة لم تكن_فى رأى_ لهذا الموقف بل كانت ليقينه أن هذه الأيام ليست أيامه. وما أصعب وأقسى أن تعيش وجهًا لوجه مع ما تكره.. وما كان لمثله أن يكون أستاذًا جامعيًا يقف أمام طلابه وهو يرى مصر تتجه بخطى متسارعة نحو(الانحلال العظيم) فأثر الاستقالة من الحياة التقليدية بأسرها واختار أن يعيش وحيدًا بين أوراقه وأبحاثه فى شقة متواضعة لا يقربها إلا حارس العقار ليأخذ منه ورقة بها احتياجاته البسيطة ويحضرها له.. كانت أمامه العديد من الفرص العظيمة للعمل المعزز المكرم فى الجامعات العربية وكان زملاؤه وتلاميذه الذين يعرفون قدره قد وطدوا لأنفسهم أماكن وطيدة.. لكنه بالفعل كان قد قرر الاستقالة من الحياة التقليدية (وما أنا منكم بالعيش فيكم..) ففضل الحياة القاسية كما قالت د.نعمات أحمد فؤاد على العيش الكذوب.فما مثل جمال حمدان يستطيع إغماض عينيه عن الحقيقة. كان يعتبر أن الصهيونية والتمزق العربى وضعف العالم الإسلامى وفقدان العدل الاجتماعى والطغيان السياسى ذلك كله ألد أعداء مصر. وكانت قضية فلسطين هى قضيته الأولى وشغلة الشاغل وصرح بأن الكارثة التى تعرضت لها فلسطين على يد الصهيونية هى سابقة ليس لها مثيل قط فى تاريخ العالم الحديث ولا العالم الإسلامى ولا العالم الثالث وكان يرى أن الخطر لا يستهدف الأرض المقدسة فى فلسطين فقط وأن التهديد لا يقتصر على العالم العربى وحده وإنما يمتد إلى العالم الإسلامى كله وكان دائمًا التذكير بأن(الصهيونيه اليوم هى أكبر خطر يواجه العالم العربى وأن تحرير فلسطين هو وحدة العالم الإسلامى السياسية وأن وحدة العالم الإسلامى إنما هى فلسطين). فى كتابه(انثربولوجيا اليهود) أثبت أن اليهود المعاصرين الذين يدعون أنهم ينتمون إلى فلسطين ليسوا هم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين وإنما ينتمون إلى إحدى القبائل التتارية التى عاشت بين (بحر قزوين) و(البحر الأسود) واعتنقت اليهودية فى القرن الثامن الميلادي.. وهو ما أكده ايضا العلامة د.عبد الوهاب المسيرى فى موسوعته الشهيرة. فى كتابه (استراتيجية الاستعمار والتحرير) سنة1968م تنبأ بانهيار الشيوعية والمعسكر الشرقى وهو ما حدث بالفعل بعد 21 سنة. من عام 1975-1984 تفرغ تمامًا لعمله العظيم(شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان).. وتناول فيه خصائص الشخصية المصرية وعلاقة تلك الخصائص بجغرافية مصر ونيلها العظيم. لم يسعد كثيرًا بظاهرة التدين الشكلى التى سادت البلاد فى السبعينيات( وما كان لمثله أن تغيب عنه تلك الرؤية) ووصف التطرف بأنه وباء يصيب العالم الإسلامى فى فترات الضعف السياسى أمام العدو الخارجى وهو نوع من التشنج بسبب العجز عن المقاومة ويتهم الغرب الاستعمارى بأنه (أكثر من أراد توظيف التطرف سياسيًا بهدف الهيمنة على العالم الإسلامى واستغلاله و تسخيره لأغراضه الإمبريالية العليا واستراتيجيته الكوكبية العدوانية) وهو ما حدث بالفعل نصا وفصا.. ماذا كان يقول وهو يرى(داعش)الآن تصول وتجول شرقًا وغربًا؟ فى (شخصية مصر) كتب جمال حمدان: (ليس من قبيل التطرف أو التبسيط ولا هو من باب الوهم أو التسطيح أن سمة الاعتدال من أبرز السمات العامة الأساسية للشخصية المصرية فالوسطية والتوازن سمات رئيسية عريضة فى كل جوانب الوجود المصرى تقريبًا.. الأرض والناس.. الحضارة والقوة.. الأخذ والعطاء). كما كتب: (كان أمرًا محتومًا أن تكتسب الشخصية المصرية صفات الاعتدال والاتزان والوسطية وأن تتفاهم مع الدين بهذه المفاهيم العميقة وأى فهم للدين خارج نطاق هذه الحدود إنما يمثل انكسارًا فى الشخصية المصرية وهو على أبسط الفروض حالة مَرضية تحتاج إلى علاج وصبر حتى تعود الشخصية المصرية إلى طبيعتها). كان طبيعيًا أن تحاول الدولة فى الثمانينيات التقرب إليه بعد أن فرض على الجميع قيمته وقامته العلمية.. فمنحته جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية 1986م لكنه ردها إلى راسلها.. وكذلك وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى أيضًا رفضه ورده إلى مرسله وقبل جائزة التقدم العلمى 1992م من الكويت. ثلاثة وعشرون عامًا مرت على وفاة العلامة جمال حمدان(1993م).. فى مشهد مأساوى نادر الحدوث.. ليس فى أقصى المدينة بل فى قلبها (25ش أمين الرافعى/الدقى).. حادث موته فى حد ذاتة يدعو للانزعاج والريبة والأخطر هو اختفاء ثلاث مخطوطات هامة من على مكتبه.. الأول (اليهود والصهيونية وبنو إسرائيل) وكان كتابًا ضخمًا أشبه بالموسوعة من ألف صفحة أما الكتاب الثانى كان يسمى العالم العربى المعاصر وكان تطوير لكتاب قديم له اسمه (العالم الإسلامى المعاصر) كان قد ألفه عام 1965 ثم توسع فيه والكتاب الثالث كان عن سوريا !! كما ذكر أخوه اللواء عبد العظيم حمدان. يرى كثير من المتابعين أن وفاته كانت عملية مخابراتية بامتياز.. لم تكن طبيعية أبدًا كانت مخيفة وغريبة وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول النهاية الغامضة لموته فضلا عن مجموعة ملابسات أخرى وتطرح الشكوك بأنه مات مقتولاً. الروايات التى تناولت وفاته تقول، إنه توفى إثر حريق نتج عن انفجار انبوبة البوتجاز.. حدث هذا فى شقة شديدة البساطة والمفروشات وبها عدد من المخارج.. والنار حتى تشتعل تأخذ وقتا يسمح بفتح باب فى أقل تقدير.. لكن المسالة كلها انتهت ولم يبحث أحد فى تفاصيلها.. ذلك أن حالة (انحلال المعايير ) كانت قد توسعت فى طول وعرض وعموم مصر على حد وصفه هو لمصر ما بعد 1967م وهو الحدث الذى هزه هزًا عنيفا رغم أنه تنبأ بتلك الهزيمة عام 1965م فى مقال بعنوان(هل تمتلك إسرائيل سلاحًا نوويًا) .. مما يروى عن آخر ما قاله العلامة جمال حمدان(أمام مصر خياران لا ثالث لهما. الانحدار التاريخى أو الثورة التاريخية).. ماذا ترون؟.