فى تعاملنا مع ملف القمح اختلط التجارى بالاستراتيجى، المال والاقتصاد بالأمن القومى والأمن الغذائى وصحة الإنسان المصرى، علاقة متشابكة يصعب الفصل بينهما، الأمر الذى لن ينفصم عراة إلا بطرقة مرزبة فلم يعد يصلح معها ضربات الشاكوش!! . القمح سلعة استراتيجية "قوت الشعب" مثلها مثل تسليح الجيش يجب تأمينهما بالاكتفاء الذاتى، نظرا لخطورتهما على الأمة فى حالة الغياب أو النقصان، لذلك فإن الاعتماد فيهما على الاستيراد يعد انتقاصا من القوة وقبول املاءات الدول المصدرة، هذا من حيث المبدأ، لكن الشيطان يكمن فى التفاصيل، فوزارتا التموين والزراعة تستورد قمحا أقل ما فيه نسبة من طفيل "الإرغوت" 0.05 فى المئة يصيب المواطن بالأمراض . هنا بلغنا مرحلة الخطر، والتحذير فيها بات واجبا بعد موافقة الحكومة على تسلم شحنات القمح المستورد التى تحتوى فيها نسبة طفيل الإرغوت 0.05 في المئة، الذى يسبب الصداع، وإجهاض المرأة الحامل، وله تأثير على الكبد، ويصيب المستهلكين بالسرطان على المدى البعيد إذا تناوله على نحو متكرر، وكأن المصريين ناقصين مرض السرطان حتى نجلب لهم قمحا يصبهم به . ورغم التحذيرات من إدارة الحجر الزراعى بأنها لن تسمح بدخول شحنات القمح التى تحوى أى نسبة من "الإرغوت" .. وتحذير خبراء التغذية من تناول خبزا أو عشبا مصابا بهذا الطفيل، لأنه يسبب العديد من الأمراض للإنسان والماشية.. الا أن وزارة التموين تمسكت بالإبقاء على نسبة الطفيل دون تغيير ضاربة التحذيرات من خطورتها عرض الحائط . هذا من الجانب الصحى فما تأثير حالة الاستيراد العشوائية على اقتصادنا، فقد أعلن خالد حنفي، وزير التموين ارتفاع فاتورة استيراد القمح بنحو 700 مليون دولار بعد القيود التى فرضتها روسيا على صادراتها من القمح عام 2015 .. وكانت روسيا أعلنت أنها ستفرض قيودا غير رسمية على صادرات الحبوب بدءا من فبراير المقبل، بهدف التصدى لارتفاع الأسعار المحلية فى وقت تواجه أزمة مالية مرتبطة بانخفاض أسعار النفط والعقوبات الغربية.. فلماذا التركيز على القمح الروسى دون غيره الذى يحمل لنا الأمراض لا طاقة لنا بها؟! وهل الشراكة مع روسيا تجبرنا على استيراد قمحا منها رديئا حسب التصنيفات العالمية له . وتنتابك الدهشة حينما تعلم أن الحكومة تدرس الغاء قرار ربط شراء القمح المحلى بالسعر العالمى وهو قرار فيه غبن شديد للفلاح المصرى لأن سعر البوشل تجاوز10 دولار فى السوق العالمى أعوام 2010 و2011 و2013 "البوشل وحدة موازين أمريكية تساوى 25 كيلو جرام" .. وتدنى سعره العالمى إلى أقل من 5 دولار للبوشل كنتيجة طبيعية لزيادة إنتاج القمح الأمريكى والفرنسى والكندى والاسترالى التى تمثل أجود أنواع القمح، وكذلك زيادة الإنتاج الروسى والأوكرانى والكازخستانى وهى أردأ أنواع القمح التى تستوردها مصر وتحتل المركز الأول عالميا فى استيراده، وكنا نظن أن هذا الأمر يحدث فى السابق خلال حكم المخلوع ولن يتكرر إلا اننا نعيش نفس المرحلة بكل ايقاعاتها فى ظلم الفلاح واستيراد بطعم الفساد . ومن المعلوم بالضرورة أن السوق العالمى للقمح متقلب بطبعة نظرا للظروف الاقليمية والعالمية التى تتحكم فيه ومن ثم فإن محددات السعر خارج السيطرة، لذلك تعتمد الحكومات على انتاجها المحلى منه حفاظا على أمنها القومى، فالحكومة التى تتخلى عن دعم الفلاحين تدرس عدم ربط السعر المحلى بالعالمى، تجدها فى أوقات ارتفاع أسعاره تتوسل للمزارعين بتوريد القمح، وكأننا نتعامل مع الفلاح بمنطق السوق فى المكسب والخسارة وليس بمنطق أنه سلعة استراتيجية يجب الاكتفاء الذاتى منه . أذكر تلك المظاهرات الكبيرة التى قام بها فلاحو اليابان وكوريا وقت توقيع بلادهما اتفاقية "الجات" التى تفرض عدم دعم الحكومات فى انتاج المحاصيل، ولأن زراعة وأكل الأرز عنصر أساسى فى حياتهم فأقاموا الدنيا على حكوماتهم .. كم أؤكد فى هذا الصدد دعم أوروبا وأمريكا لزراعة المحاصيل من الثوابت السياسية فيها منذ عام 1945، تماما كما تدعم الصادرات فيها، لكن حكومتنا تدعم بشكل دائم الصادارات التى يقوم بها الأغنياء فيما تعامل الفلاح بمنطق السوق . غابت الرؤية وضل الهدف فى التعامل مع السلعة الاستراتيجية كان نتيجته سلوكيات فاسدة مثل ما يحدث خلال عملية تجميع المحصول إذ أفرز طبقة من التجار يخلطون"عملا صالح وآخر باطلا" القمح المحلى بالمستورد مستفدين من فروق السعر سواء أكان فى المحلى أو المستورد، وبروز أصحاب مصالح ولوبى من شركات تستورد أسوأ أنواع القمح "الروسى والاكرانى" .. وطالما غيبنا البعد القومى فى سلعة استراتيجية كالقمح سنظل نراوح مكاننا وتستهلكنا مشاكله حول جودة القمح المستورد من عدمه وارتفاعه سعره من انخفاضة . من أسف لم أجد تعقيبا للمقترح الذى قدمته فى مقال سابق فى هذه الجريدة مطالبا الحكومة بالتفكير خارج الصندوق بزراعة مليون فدان قمح وأرز فى الاراضى الأثيوبية بمنطق "كل نفسك أحسن ما يأتى غيرك ويأكلك" والاستفادة من حصتنا من مياه النيل فى المنبع والتى سيحجبها سد النهضة، وسبق ان تعاقد رئيس الوزراء عاطف عبيد مع رومانيا لزراعة القمح فيها وقامت عليه الدنيا ولم تقعد، كذلك لم نفعل تعاقداتنا مع السودان بزرع مليون فدان، 800 ألف منها فى شمال السودان و200 ألف فى جنوب مصر، ولم أجد مبررا واحدا لزراعة القمح والاكتفاء الذاتى لرغيف الخبر المدعم غير المقولة التى نقلت عن الرئيس عمر البشير حينما طالب مبارك بزراعة القمح فى السودان فقال له "أمريكا مش هتسبنا" .. أريد سببا وجيها يشفى الغليل من عدم زراعة ما يكفى الاكتفاء الذاتى غير حكاية غضب أمريكا منا .. وإن غضبت أمريكا فتضرب دماغها فى الحيط !!