قافلة الصمود... قافلة مغاربية تضم 1500 ناشط من جنسيات مختلفة، انطلقت بحماسة شعبية من تونس لفك الحصار عن غزة، واجتازت الأراضي الليبية قاصدة معبر رفح، محمّلة باللافتات، ومزينة بخطاب وجداني عن كسر الحصار. تم الإعلان عن القافلة في تونس يوم 13 مايو 2025، وانطلقت من العاصمة الجزائرية يوم 8 يونيو، ثم من تونس يوم 9 يونيو، إلى ليبيا التي تريد الدخول منها إلى مصر، وكان المنتظر لقاء الوفود الدولية بالقاهرة يوم 12 يونيو، ثم السير على الأقدام من العريش إلى رفح يوم الجمعة.!!. الأمر يبدو طيبًا إنسانيًا رائعًا وقلوبنا مع أطفال غزة وتضامننا الكامل مع أهل عزة، وضد ممارسات الكيان المحتل ولكن.. يجب أن تبقى عقولنا وضمائرنا وما تعلمناه من الخبرات السابقة مع مصر. فالطريق إلى غزة لابد أن يمر أولًا عبر بوابة الدولة المصرية، وبالتالي لابد أن يكون العبور بشروط الدولة المصرية. وهذا ما أعلنته الخارجية المصرية فرحبت، كعادتها، بكل ما يدعم الحق الفلسطيني، لكنها فتحت الذراع اليمنى وهي تُشير باليسرى إلى «الضوابط التنظيمية» و«الحصول المسبق على تأشيرات وموافقات رسمية»، وكأنها تقول بلطف حازم: التضامن مرحّب به، بشرط ألا يتجاوز السيادة. فالقافلة عليها علامات أمنية، تثير مخاوف المواطنين قبل مؤسسات الدولة، أبرزها أن أكثر من 1500 مشارك من جنسيات مختلفة لم ينسّقوا مع الجهات المصرية، ولم تعرف السلطات عنهم سوى أنهم متحمسون. والحماسة وحدها لا تعبر الحدود، ولا تمنع الاختراق، ولا تكشف النوايا خلف الشعارات. أيضاً ضمن العلامات المقلقة السير آلاف الكيلومترات في أراضٍ ملتهبة!، تعج بالجماعات الفارة من بلاد الحرب والصراع، إذ تحركت قافلة «الصمود» من تونس والجزائر، لتدخل الأراضي الليبية عبر معبر رأس جدير. هناك، تبدأ طريقًا محفوفًا بالتعقيدات الأمنية والسياسية، إذ مرت القافلة بمناطق تستقر فيها جماعات مصنفة دوليًا على قوائم الإرهاب، مثل تنظيم داعش، وميليشيات مسلحة موالية لتنظيم القاعدة، وأخرى محسوبة على الإخوان المسلمين، فضلًا عن عناصر متطرفة نُقلت إلى ليبيا بعد احتجازهم في سجون غربية. مرت القافلة أيضًا بمصراتة وسرت، حيث يتواجد مرتزقة قدموا من ساحات الصراع في سوريا، ثم اتجهت شرقًا نحو بنغازي وطبرق، قبل الوصول إلى معبر السلوم الحدودي المصري، ومنها إلى القاهرة، وتنتظر ترتيبات وصولها إلى رفح. إذاً المشهد أوسع من ضفتي طريق لقافلة إنسانية، بل محاور تتقاطع مع هشاشة الوضع الأمني في أراضي المرور، فضلا عن استقرار أعداد ضخمة من اللاجئين مجهولي الانتماء السياسي والعقائدي، بعضهم يشتبه في انتمائه إلى تيارات متطرفة، إضافة إلى شكوك تحوم حول نشاط بعضهم ماليا وهو ما يعزز الشكوك بشأن توظيف المال السياسي في مسارات غير معلنة. وهكذا فإن القافلة تضع الأمن المصري أمام تحديات، بدءًا من ضرورة الحصول على التأشيرات، وصولًا إلى عبور أكثر من 700 كلم داخل الأراضي المصرية. لكن ليس هذا هو التحدي الوحيد، فماذا؟. الوصول إلى معبر مغلق بالقوة الإسرائيلية!. الأسئلة التي تفرض نفسها هنا ليست تشكيكًا في نوايا القافلة، ولا في صدق المتضامنين مع غزة، بل محاولة لفهم الصورة الكاملة. ماذا لو تم استهداف المعبر؟، ماذا لو اندلعت مواجهة؟، هل تكون مصر وحدها مطالبة باحتواء العواقب، بينما يكتفي الداعمون ببيانات الشجب والتغريدات الحماسية؟، هل ننسى أن إسرائيل سبق أن منعت دخول وفود دبلوماسية رفيعة إلى الضفة، وأوقفت قوافل بحرية تضامنية داخل المياه الدولية، وأطلقت النار على الصحفيين والعاملين في الإغاثة، وعلى الوفود الأممية دون اكتراث بالقانون الدولي؟. إن الهجوم غير المتزن على الموقف المصري لا يُنصف الحقيقة، فحين تصدّت مصر، وحدها تقريبًا، لمخططات التهجير، وقفت أمام إدارة ترامب ورفضت صفقة القرن، لم تكن تُزايد، بل تدافع عن الأمن القومي العربي بكامله. القضية الفلسطينية تظل في القلب. والتضامن معها واجب إنساني لا جدال فيه، لكن لا يجوز أن تُختزل في تحركات رمزية تتجاهل الوقائع الميدانية. ليس المطلوب كتم الأصوات، بل أن نفكر بصوتٍ عاقل، وأن نُدير تضامننا بروحٍ مسؤولة لا تفتح أبواب النار على أوطاننا من حيث لا ندري. رغم الطابع الإنساني الذي ترفعه قافلة «الصمود»، فإن واقع الأرض لا يحتمل التبسيط. عبور مئات الأشخاص من دول متعددة، دون تأشيرات أو تصاريح واضحة، يضع السلطات المصرية أمام تحديات أمنية وإدارية هائلة، فالمعابر لا تُفتح بالهتاف، والسيادة لا تُدار بالرمزيات. هكذا يجب أن تُطرح الأسئلة بعيدا عن الهجوم على كل من يعترض على مرور القافلة بعيدا عن التخوين والتهوين والابتزاز العاطفي وهي: من يموّل؟، من يُشرف؟، من يضمن؟، من يفرز المرافقين؟ من يحاسب إن اندسّت نوايا أخرى في قلب القافلة؟، هل تقبل الدول التي مرت فيها القافلة أن يعبر المصريون بها دون تأشيرات دخول؟. إن التضامن لا يعني الفوضى. والدعم يجب ألا يكون على حساب الوطن. في النهاية، مصر ليست بوابة للارتجال.. بل دولة تعي أنها على خط النار، وتُدرك أن الخطابات لا توقف الرصاص، وأن الشعارات لا تحمي الحدود. الأسئلة مشروعة، والقلق مفهوم، وليس كل تحفظ خيانة، ولا كل تضامن استراتيجية، فحين تكون الأرض مشتعلة، يجب أن نُحسن اختيار خطواتنا حتى لا نحرق آخر ما تبقى من أمل.