حين تتحوّل القضايا الإنسانية إلى مشاهد استعراضية، يجب أن نتوقف ونسأل: من المستفيد؟ ومن الخاسر؟ تحت لافتة «قافلة الصمود» تتحرك عناصر من شمال إفريقيا نحو معبر رفح، تحت شعار «كسر الحصار عن غزة» شعار ومشهد نبيل، هكذا يبدو الأمر أو يتم تصويره لكنه فى الواقع محمّلٌ بالكثير من الدلالات المُقلقة والتحركات المشبوهة والمفضوحة. ليس من السهل أن تصف قافلة من 1500 شخص، تعبر الحدود من تونس حتى مصر، بأنها مجرّد «مبادرة شعبية» ، فى السياسة لا شيء بريء والتوقيت وحده كفيل بكشف النوايا، لا الشعارات، فالقافلة لا تحمل مساعدات، ولا تنقل دواءً أو طعامًا ، بل هى مجرد «رسالة رمزية» يُراد منها أن تصل، لا إلى أهل غزة، بل إلى الرأى العام الدولى.. وعلى حساب من؟ على حساب مصر.. وهنا نطرح أسئلة بديهية : لماذا الآن ولماذا عبر مصر ؟! القاهرة منذ بداية العدوان، فتحت مستشفياتها، وأرسلت مساعداتها، واحتضنت المصابين الفلسطينيين، هناك إصرار على توريط مصر واتهامها ظلماً وإفكاً وبهتاناً وكأننا جزء من المشكلة، لا من الحل. بل الأدهى من ذلك، أن هناك من يتربّص بكل خطوة مصرية، ليصنع منها مادةً اتهامية، ويحوّل الجهود الإغاثية الصادقة إلى موضع شكٍ. من حق الشعوب أن تتضامن.. ومن واجبنا جميعًا أن نرفع الصوت من أجل غزةوفلسطين، لكن هل من المقبول أن يأتى هذا التضامن فى صورة مسرحية إعلامية، على حدود دولة تسعى بكل ما تملك لاحتواء الأزمة لا لتفجيرها؟ ماذا لو وقع احتكاك بسيط على الحدود؟ من سيدفع الثمن؟ مصر، كالعادة، ماذا لو رُفعت لافتة مسيئة، أو صدرت عبارة تحريضية؟ النتيجة معروفة: اتهامات جاهزة بالتقصير، وخطاب إعلامى دولى منحاز، ومشهد يتم تصويره بمنتهى السذاجة كأن مصر هى العائق الوحيد أمام حرية غزة، دعونا نقولها بصراحة: مصر ليست خصمًا وليست عدوًا لغزة، ولا طرفًا محايدًا .. مصر، بكل ما فيها من تحديات داخلية وضغوط خارجية، لم تغلق بابها يومًا فى وجه فلسطينى واحد. 60% من المساعدات التى دخلت القطاع كانت مصرية، لا عبورًا فقط، بل تجهيزًا ونقلًا وتنسيقًا،مئات الأطباء والوفود الإغاثية دخلوا من معبر رفح بتسهيلاتٍ مصرية ومع ذلك، لا تزال بعض الأصوات تتعامل مع مصر كأنها العقبة، لا الداعم، حتى فى زيارة ماكرون، لم تتردد مصر فى وضع القضية الفلسطينية فى مقدمة المشهد، وزار الرئيس الفرنسى المستشفيات، والتقى الجرحى، وخرج من القاهرة بموقفٍ واضح ضد التهجير. من يفعل ذلك لا يمكن اتهامه بالتقاعس. نحن كعرب، نُقدّر كل حراك شعبى نابع من محبة فلسطين.. ولكن إن كان هذا الحراك سيجعل من مصر منصة للتصعيد أو فوضى إعلامية، فهنا يجب أن نقف.. لا أحد فوق سيادة مصر، ولا نسمح بأن يتحول دعم غزة إلى ذريعة للنيل من الدولة الوحيدة التى ما زالت تقف، فعليًا، على جبهة الدعم الإنسانى الحقيقي ، ما يحدث ليس مجرد قافلة. بل مشهد سياسى بامتياز. ومصر، رغم كل ما قدمته، تُوضع من جديد على المحك. فهل المطلوب دعم غزة؟ أم توريط مصر؟ هل المطلوب نصرة الفلسطينيين؟ أم صناعة صورة تُدين القاهرة؟ أسئلة يجب أن تُطرح، على من يرفعون الشعارات البراقة دون أن يدفعوا ثمنها. ولعل بيان الخارجية المصرية فى هذا التوقيت لم يكن مجرد توضيح بروتوكولي، بل كان ردًّا محسوبًا على محاولة مُمنهجة للزجّ بمصر فى مربع الاتهام. ما قالته مصر بوضوح: إن التضامن لا يمر فوق سيادتها.. وأن من يحاول تصويرها كعقبة، إنما يتغافل عن عقودٍ من المواقف الثابتة.. البيان لم يكن دفاعًا، بل كان تحذيرًا بأننا : لن نسمح بأن تُختزل القضية الفلسطينية فى مشهد مسرحى على حدودنا.