لم أقابل أحدا أمس أو أقرأ لأحد أي تعليق على قرار النائب العام المستشار نبيل صادق بحظر النشر في قضية تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات عن الفساد إلا كان تعليقا سلبيا للغاية ، الجميع في حالة ذهول من سرعة صدور قرار حظر النشر ، ومن غياب أي مبررات منطقية لهذا القرار العجيب ، الجميع تقريبا اعتبر أن هذا القرار آثاره تخدم الفساد وتعطي انطباعا بأن الدولة غير معنية سوى بإخفائه ، كما أن توالي صدور قرارات بحظر النشر في قضايا تهم الرأي العام أصبح مثار تنكيت وسخرية على نطاق واسع في مصر وخارجها ، وهو نذير خطر ينبغي على السلطة القضائية ممثلة في النيابة العامة أن تراجعه وتدرس دلالاته ، لأن فقدان الشعب للثقة في مؤسسة العدالة يعتبر المسمار الأخير في نعش الوطن نفسه ، كدولة ونظام . طوال الأسبوع الماضي والإعلام الرسمي والإعلام الموالي لأجهزة رسمية نافذة وكذلك الصحف القومية ، جميعهم يقطعون في لحم المستشار هشام جنينه رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات ويهتكون عرضه ويتهمونه بأبشع الاتهامات ويغتالونه معنويا بأبشع صور الاغتيال المعنوي ، وينسبون إليه أكاذيب وتحقر من مكانته ومن وطنيته وتطعن في شرفه ، ويعيدون ويزيدون في تضليل تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات وإثبات انحرافه وتعمده الكذب ، وذلك من خلال سيل هائل من مقالات وأخبار ونقاشات وحوارات على أوسط نطاق في الفضائيات والصحف المختلفة وبلاغات مهينة للرجل للنيابة العامة ، كل ذلك يحدث دون أن تتدخل أي جهة لحظر النشر أو حظر البذاءة التي تعرض لها هذا المستشار الجليل والجهاز الذي يرأسه ، ثم فجأة تسربت نسخة من رد الجهاز المركزي للمحاسبات على تقرير تقصي الحقائق ليكشف زيف الحملة ضده بالأرقام والتفاصيل والأدلة الدامغة مما أثار ردود فعل متعاطفة مع الجهاز المركزي ورئيسه وصححت كثيرا من المعلومات الخاطئة لدى الرأي العام ، فإذا بنا صبيحة اليوم التالي نقرأ عن صدور قرار عاجل من السيد النائب العام بحظر النشر في الموضوع ، لماذا ؟ ، هذا هو السؤال الذي انتشر في طول مصر وعرضها بدون إجابة ، وأظن أن النائب العام مطالب بالخروج إلى الناس في مؤتمر صحفي أو على الأقل بيان توضيحي يشرح مبررات هذا القرار ولماذا لم يصدر إلا بعد أن بدأ هشام جنينه يتكلم . لقد أوضح قرار النائب العام بحظر النشر أن هناك ملفا تم افتتاحه للتحقيق في هذا الموضوع ، وكان الأمر مفاجأة لنا نحن الإعلاميين ، وبناء عليه تم حظر النشر في تحقيقات هذا الملف ، والمدهش أن هذا الملف ما زال فارغا ، ولم تبدأ فيه صفحة واحدة ، ولا استمعت النيابة العامة للمستشار جنينه ولا لرئيس لجنة تقصي الحقائق ، أي أنه لم يأخذ التحقيق مجراه ثم اكتشف المحققون خلال سير التحقيقات أن هناك أسرارا جديدة خطيرة لا يصح نشرها ولا يكون في صالح التحقيق نشرها فصدر قرار الحظر ، أبدا ، القرار صدر قبل أن تبدأ أي خطوات جدية في التحقيق ، أشبه بقرار احترازي ، ومرة أخرى ، لماذا ؟ . النائب العام هو محامي الشعب ، لا هو محامي الحكومة ولا وزير العدل ، هو محامي الشعب ، وانحيازه المفترض هو للشعب ، والشعب هو السيد بنص الدستور ، وبالتالي لا يصح أن يكون النائب العام هو السبيل المتكرر لتغييب الحقائق عن الشعب ، خاصة وهناك ملفات عديدة تم حظر النشر فيها من أشهر طويلة ، دون أن نعرف عنها شيئا ولا صدر عن النائب العام فيها شيء ، مثل اغتيال النائب العام السابق نفسه ، وهناك عزوف غريب من النيابة العامة عن متابعة الرأي العام والتواصل معه ، لا أذكر خلال السنوات الماضية أن دعا النائب العام إلى مؤتمر صحفي لتوضيح مجريات أمور أو تحقيقات في أي من القضايا التي تشغل الرأي العام وتهم الشعب ، فقط شاهدنا النائب العام "السويسري" يحترم الرأي العام المصري ويشارك في مؤتمر صحفي في القاهرة ليكشف عن حقائق أرصدة مبارك وأولاده في سويسرا وما تم الوصول إليه ، وهو أمر لم يحدث أبدا من النائب العام المصري ، والشعب المصري لا ينتظر النائب العام السويسري ، وإنما ينتظر النائب العام المصري . المفارقة أن قرار الحظر الجديد صدر بعد يومين فقط من صدور حكم مجلس الدولة بإبطال قرار سابق للنائب العام بحظر النشر في تحقيقات تزوير انتخابات الرئاسة في 2012 بين مرسي وشفيق ، وقال مجلس الدولة في حيثيات حكمه : (الأخبار والمعلومات التي تخص الشأن العام تعتبر من أدوات تشكيل الرأي العام، وأن للمواطنين ولوسائل الإعلام الحق في اللجوء لمصادر المعلومات الصحيحة للحصول عليها وتداولها ونقلها وإجراء النقاش والجدال حولها، ليشكل كل مواطن رأيه في الشئون العامة على هدى من نور الحقيقة ودون حجر على حرية الفكر .. إن كل مساحة تخلو في وسائل الإعلام من المعلومات والحقائق تمتلئ بالأكاذيب والأضاليل، وكل خصم من العلم الصحيح بالحقائق يؤدي إلى زيادة الجهل والانتقاص من الوعي العام) ، هذا هو النص الحرفي لحيثيات حكم القضاء في مسألة حظر النشر ، ثم نفاجأ بقرار جديد بعد ساعات عكس كل هذا الذي قاله القضاء ودعا إليه . كلام مجلس الدولة ، وليس كلامنا ، هو الذي يقول بأن حجب الحقائق عن الرأي العام سيتيح المجال لانتشار الأكاذيب والشائعات التي تهدد سلامة المجتمع وتربكه ويؤدي لزيادة الجهل والانتقاص من الوعي العام ، فإذا كان الأمر كذلك ، بشهادة القضاء ، فلماذا العناد والإصرار المتكرر على حجب الحقائق وترك الشعب نهبا للشائعات والقيل والقال ، خاصة في قضية تتعلق باتهامات من العيار الثقيل بإهدار المال العام والفساد على نطاق واسع ، كما أنه في تلك المسألة تحديدا ، مسألة تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات ، فإنها دون غيرها اختصها الدستور بضرورة إطلاع الرأي العام المصري عليها ، اطلاع الشعب عليها ، بل ألزم رئيس الجهاز نفسه بأن يطلع الشعب المصري على تلك التقارير ، لأنها متعلقة بماله وما يملكه ، فهو الشعب أحق الجميع بأن يعرف ما جرى في ماله ، أما أن يأتي قرار من النائب العام ليقول أنه لا يصح أن نطلع الشعب على الحقيقة في هذه التقارير ، حتى لو كان لفترة زمنية ، فهو مخالفة للدستور صريحة . تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات المتوالية على مدار السنوات الماضية بإهدار المال العام اشتملت على اتهامات للنيابة العامة بالمشاركة في إهدار المال العام أو الاستيلاء على أراضي الدولة ، فأن تأتي النيابة العامة وتحظر النشر في مثل هذه الاتهامات لهو أمر مربك للغاية ، وكان ينبغي أن تتحرج منه النيابة العامة ، لأنها طرف أصيل فيه ، فلا يصح أن تكون هي الخصم والحكم ، المتهم ومن يحقق في الاتهام ، هذا وضع لا يخدم سمعة العدالة في مصر ، وكان الأولى أن يحيل النائب العام الأمر كله إلى البرلمان ، لأنه المخول دستوريا بمناقشة تلك التقارير والتصرف فيها ، أو على الأقل طلب انتداب قاضي تحقيق يتصرف في هذا الملف . حظر النشر بقرار من النيابة سيكون ملجما لنا نحن فقط في الداخل ، ولكن عشرات الصحف والقنوات الفضائية والمواقع خارج مصر لن يلزمها ذلك بشيء ، وستنشر وتتوسع في النشر ويقرأها ويسمعها الملايين في مصر ، ويمنحها الحظر المفروض في الداخل جاذبية أكبر ومصداقية أعلى ومجانية لأي خبر يمررونه ، بما يعني أن القرار ليس فقط محدود الأثر على الداخل ، بل هو يخدم عكس الغرض منه ، كما أن مجلس النواب يفترض أن يبدأ خلال أيام مناقشاته لتقرير لجنة تقصي الحقائق وأيضا تقرير الجهاز المركزي ، بطلب من رئيس الجمهورية ، وبالتزام دستوري أيضا ، وبطبيعة الحال سوف يكون مضطرا لأن يستمع إلى توضيحات من الطرفين ، الجهاز المركزي ولجنة التقصي ، وربما من خبراء آخرين ، وكل ذلك سيتم نشره ، لأنه لا ولاية للقضاء على السلطة التشريعية في أعمالها ، وحظر النشر مقصور على أعمال النيابة فقط ، أما ما يجري في البرلمان فالجميع سينشره ، وهو ما يجعل من حظر النشر عبر النيابة لغوا لا قيمة له من الناحية العملية ، وسيعرف الناس الحقيقة كاملة ، رغم الحظر .