ضجيج كبير أحدثه القرار الأمريكي الأوربي الذي صدر أمس برفع العقوبات المفروضة على إيران بعد وفائها بالتزاماتها في تفكيك المشروع النووي والتوقف عن تطوير أي أعمال متصلة به ، وهو الأمر الذي جزم خبراء المنظمة الدولية للطاقة النووية بأنه ينهي أي مخاطر لقدرات إيران على انتاج قنبلة نووية لعشرات السنين المقبلة ، هذا القرار أثار الكثير من التعليقات والمخاوف في منطقة الشرق الأوسط ، وخاصة في منطقة الخليج العربي ، وذلك على خلفية أن هذا القرار من شأنه أن يمنح إيران قرابة مائة مليار دولار أمريكي بعد إطلاق أموالها المجمدة على خلفية العقوبات المفروضة سابقا ، وهو ما يدعم الدولة المثيرة للقلق والفوضى في المنطقة ويساعدها على تغطية مشروعاتها التوسعية والعسكرية في سوريا ولبنان واليمن والعراق ، كما أن إطلاق هذه التسوية وتوابعها المالية تأتي في وقت تعاني منه منطقة الخليج من تدني أسعار النفط لدرجة استدعت السحب من الاحتياطي النقدي للدول بصورة متكررة وهو أمر مرشح للتعقيد أكثر إذ يسمح الاتفاق الأمريكي الإيراني للأخيرة بأن تضخ المزيد من النفط في السوق العالمي مما يدفع بأسعاره إلى الهبوط أكثر ، كما أن البعض ذهب في تحليله إلى أن القرار الأخير يعني اتفاقا غربيا ضمنيا على اعتماد إيران كشريك استراتيجي في المنطقة على حساب دول الخليج العربي . في تقديري أن ردود الأفعال التي تابعتها على مدار اللحظة تقريبا ، هي تقديرات مبالغ فيها ، ومخاوف لا تتصل بواقع صحيح ، وخاصة على صعيد المردود المالي والاقتصادي لإيران ، لأن الأموال المجمدة سيتم خصم ديون وفواتير سابقة من قيمتها وهي مبالغ قدرت بحوالي خمسين مليار دولار ، بما يعني أن ما سوف تحصل عليه إيران بالتقسيط هو قرابة خمسين مليار دولار ، وهو مبلغ ليس مهولا بالنسبة لدولة نفطية مثل إيران وتعداد سكان يقترب من الثمانين مليون إنسان ، كما أنه رقم لا يتجاوز ما يوازي 15% من الموازنة العامة للدولة المقدرة بحوالي 320 مليار دولار ، والأهم من ذلك أن إلغاء العقوبات يعني فتح أسواق إيران على مصراعيها للمنتجات الأمريكية والأوربية ، خاصة وأن إيران لا تملك ما تصدره فعليا للخارج بخلاف النفط ، ولا يمكن حسبان تصدير السجاد والكافيار تعزيزا مهما لميزانية الدولة ، وبالتالي فالرابح الأكبر في ذلك الانفتاح التجاري والاقتصادي هو الصناعات الغربية ، وعلى الفور كانت عقود بعشرات المليارات من الدولارات يتم توقيعها في مقدمتها عقود شراء عشرات الطائرات المدنية لتطوير الأسطول المتهالك وبطبيعة الحال ستقتحم السوق الإيراني شركات صناعة أدوات الترفيه ووسائل الاتصال الحديثة ووسائل المواصلات المختلفة ومختلف المنتجات الأجنبية ، وهو ما يرجح أن يبتلع ضعف هذا المبلغ الذي ستحصل عليه إيران في عام واحد فقط ، دون أن يمنح ذلك صاحب القرار الإيراني قدرة أوسع على التمدد الخارجي أو دعم مشروعاته التوسعية في العالم الإسلامي ، بل إن هذا الانفتاح في تقديري سيكون له عواقب اجتماعية مهمة للغاية ستعاني منها النخبة الدينية المتشددة المهيمنة على القرار الإيراني وسيدعم التيار الإصلاحي بقوة ، ويفتح على الحالة السياسية والاجتماعية والثقافية لإيران تحديات غير مسبوقة ستربكها طويلا وتجعلها أكثر انشغالا بمتاعبها الداخلية . ويبقى أن ضخ إيران للمزيد من النفط ، والذي بدأ اليوم بضخ حوالي نصف مليون برميل إضافي ، هو تطور يضرب إيران نفسها كما يضرب دول الخليج العربي ، لأن الاقتصاد الإيراني يقوم على النفط أساسا ، وانهيار أسعار النفط يعني انهيارا اقتصاديا إيرانيا أيضا وضغوطا متزايدة لإعادة هيكلة اقتصاد الدولة ، وفي اعتقادي أن الانفتاح الاقتصادي والتجاري الجديد مع الولاياتالمتحدة والشركات العالمية سيضيف عبئا على فاتورة الاقتصاد ، لأن قسما واسعا من تلك الفاتورة يستهلك في تجارة متعلقة برفاه الشعب الذي عانى طويلا من فترة المقاطعة والحصار الاقتصادي ، وهذا في النهاية يفاقم من معاناة الدولة ذاتها وميزانها التجاري . محاولة ربط ما حدث بتسويات سياسية وأمنية بين إيرانوالولاياتالمتحدة في تبادل الإفراح عن سجناء أمريكيين في طهران مقابل إيرانيين في أمريكا لا ينبغي تحميله أكثر من دلالته المتجددة على منطق البراغماتية الأصيل في السياسة الأمريكية منذ نشأتها ، وقد مارست هذا السلوك مع دول أخرى ، بل مارسته مع حركات سياسية لا تعترف بها ، مثل حركة طالبان ، وطلبت توسط قطر في تبادل الإفراج عن أسرى لطالبان مقابل إطلاق سراح عسكري أمريكي كان مختطفا لدى الحركة ، ولا ننسى أن ثمة انقساما سياسيا أمريكيا واسعا تجاه الحالة الإيرانية بما فيها الاتفاق الأخير ، وموقف الجمهوريين يختلف كثيرا عن موقف أوباما والديمقراطيين من هذا الاتفاق ومجمل التعامل مع إيران ، وهو ما يجعل المستقبل القريب مفتوحا على المجهول . التطور الأخير يستدعي الانتباه والتيقظ لتوابعه ، هذا صحيح ، ولا نقلل من خطورته ، خاصة وأن بعض توابعه سينعكس على اقتصاديات دول أخرى غير خليجية وتعاني أكثر ، مثل مصر والأردن والسودان ، لكن أيضا لا يصح أن نعطيه أكبر من حجمه في ظل التوترات المتنامية في المنطقة ، ولعله يكون حافزا لدول المنطقة من أجل إعادة النظر في حسابات المستقبل القريب ، وانتزاع المبادرة في حماية المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية دون انتظار حسابات القوى العظمى ، وأعتقد أن توجهات المملكة العربية السعودية في العام الأخير كانت تتجه في هذا المسار ، وهو ما سوف يشجع دولا أخرى في المنطقة على النهج ذاته .