قال الدكتور محمود محيي الدين النائب الأول لرئيس البنك الدولي، إن استشراف المستقبل الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط يشكل صعوبة في ظل قصور المعلومات والبيانات المتاحة حول الدول العربية، خصوصا تلك الدول التي تعاني من صراعات جعلتها غير قادرة مع إتاحة المعلومات بالقدر المطلوب، وبعض الدول التي لم تحدث بياناتها. وأضاف محيي الدين، في حوار أجرته معه صحيفة "الشرق الأوسط"، أن كلا من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرهما من مؤسسات تضع تعريفات متباينة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل مستقل ومختلف عن الآخر، ولذا يجب مراعاة تعريف هذه الجهات للمنطقة، كما أن النظر للدول العربية باعتبارها اقتصاديا "في سفينة واحدة" به قدر من المبالغة وإن كان من الممكن النظر، إلى هذه الدول باعتبار أن كلا منها "سفينة مستقلة" وإن كانت متصلة بالسفن الأخرى سواء في حركة التجارة البينية التي ما زالت محدودة أو حركة الاستثمار أو حركة العمالة وتحويلاتها المالية، مع الأخذ في الاعتبار التباين الشديد في هياكل الاقتصاد لدى كل دولة وقدراتها المتفاوتة على الاستجابة للمتغيرات الدولية.
النظر للدول العربية باعتبارها اقتصاديا "في سفينة واحدة" به قدر من المبالغة وتابع محيي الدين أن أهم المتغيرات التي شهدتها الساحة الاقتصادية الدولية تمثلت في استمرار تداعيات الأزمة المالية التي وقعت في 2008 واستمرت تأثيراتها قائمة ومؤثرة في الاقتصاد العالمي. ومنذ الأزمة لم يتجاوز النمو المتراكم للاقتصادات المتقدمة 4 إلى 5%، بينما حققت الصين تراكما في النمو بنسبة 70%، وهذا يشير إلى متغيرات جديدة في معدلات النمو الاقتصادي ومراكز الثقل الاقتصادي على المستوى العالمي. وأوضح أن المتغير الثاني هو الانخفاض في أسعار النفط، وتقلب سوق المنتجات التعدينية والخامات والسلع الزراعية، وهي مجموعة من العوامل لها تأثيرات متفاوتة على الدول العربية سواء المصدرة أو المستوردة للنفط وتلك المنتجة والمستوردة للسلع الزراعية والمواد الخام. وتقديرات البنك الدولي تشير إلى أنه بين عامي 2014 و2015 حدث انخفاض في أسعار الطاقة يقدر بنحو 46%.
وأوضح أن "التوقعات تشير إلى أن العام 2016 سيشهد انخفاضا محدودا بنسبة 2% مع توقعات بزيادة أسعار النفط بنهاية العام المقبل، والتوقعات التي تتم مراجعتها يشير آخرها إلى سعر يتراوح بين 51 و56 دولارا للبرميل خلال الفترة حتى عام 2018، أما أسعار المنتجات التعدينية فقد انخفضت بنسبة 19% خلال عام 2015، مقارنة بعام 2014، مع توقعات بزيادة طفيفة في أسعار المنتجات التعدينية لا تتعدى 1% في العام 2016، وقد انخفضت أسعار السلع الزراعية بنسبة 13% خلال عام 2015 مع توقعات بارتفاع أسعارها بنسبة 1.3% ما لم تتسبب حدوث تغييرات مناخية حادة في تغيير تلك التوقعات، وبصفة عامة فإن أي زيادات في أسعار السلع الزراعية ستكون طفيفة.
أما المتغير الثالث هو انخفاض النمو والطلب في الأسواق الناشئة، إما بسبب انخفاضات أسعار المنتجات والسلع الأولية، وإما تغييرات في النموذج التنموي مثلما حدث في الصين، التي قررت تغيير نهج النمو من الاعتماد على التصدير وجذب الاستثمارات الأجنبية الذي تبنته منذ عام 1979 إلى نموذج أكثر تقديرا للطلب المحلي والاستهلاكي الداخلي وقطاع الخدمات المحلية، وتشير تقارير البنك الدولي إلى قوة ارتباط انخفاض النمو في الصين، بانخفاض الطلب على السلع الأولية والنفطية.
والمتغير الرابع هو تأثيرات المشكلات الجيوسياسية والصراعات في المنطقة وتفاقم مشكلات مثل أزمة المهجرين والنازحين واللاجئين، وهي أزمة إنسانية في المقام الأول بتداعيات اقتصادية سلبية، فضلا عن سقوط أعداد غفيرة من القتلى والمصابين وما يصعب ذلك من مآٍس وأزمات، وفي ظل كل هذه التغييرات فإن عام 2015 لم يكن جيدا من حيث معدلات النمو التي تراوحت حول 2.8% يضاف إلى ذلك تدني أداء الموازنات العامة مع عجز بلغ 9.2% في المنطقة وزيادة العجز في الحساب الجاري لميزان المدفوعات حتى وصل إلى 2.6% في 2015 بعدما كان يشهد فائضا في سنوات ماضية".
سعر النفط والمشكلات الجيوسياسية في المنطقة من أهم متغيرات الساحة الاقتصادية الدولية وأكد محيي الدين أن توقعات البنك تشير إلى أن هناك تحسنا نسبيا خلال عام 2016، لكنه تحسن مشروط ومعلق بعدة أشياء، أهمها حدوث انفراجة في مناطق النزاعات والصراعات واستعادة الاستقرار، وهناك تفاؤل لدى البعض من خطوات مثل عقد اجتماع في الأممالمتحدة حول الأزمة السورية، وإبرام اتفاق الصخيرات لحل الصراع الليبي، واجتماعات جنيف لحل الصراع اليمني، ويرى الخبراء هذه الاجتماعات والاتفاقات كبادرة أمل لبداية إعادة الاستقرار للمنطقة وفض النزاعات والحروب الأهلية، يضاف إلى ذلك التأثير الإيجابي لمنطقة اليورو، حيث تشير التوقعات إلى ارتفاع معدل النمو لمنطقة اليورو من 1.5% إلى 1.8%، وهذا الارتفاع مفيد، خصوصا لدول شمال إفريقيا المرتبطة اقتصاديا بمنطقة اليورو.
ويتوقع البنك الدولي انخفاضات في عجز الموازنات في دول منطقة الشرق الأوسط الذي يقدر في عام 2015 بنحو 9.2% ليصل إلى 5.9% في عام 2016، كما يقدر البنك الدولي أن الحساب الجاري لميزان المدفوعات سيتحسن لينخفض من 2.6% ليصل إلى 1.3% في عام 2016، وتقديرات البنك أن معدل نمو منطقة الشرق الأوسط خلال 2016 سيبلغ 4.6%، لكن تعريف منطقة الشرق الأوسط في البنك الدولي يشمل إيران إلى جانب الدول العربية، ومع إلغاء الحظر الاقتصادي على إيران فإن هناك توقعات قوية بارتفاع معدلات النمو للاقتصاد الإيراني، وهو ما يدفع معدلات النمو في المنطقة، أخذا في الحسبان نمو الاقتصاد الإيراني، وتوقعات البنك أن ينمو الاقتصاد الإيراني من 1.7% في عام 2015 إلى 6.1% في عام 2016، ورأى أن رفع الحظر الاقتصادي عن إيران سيكون له أثران، الأول يتمثل في ضخ إيران لمليون برميل من النفط بما يزيد من المعروض في الأسواق الدولية الذي به بالفعل فائض كبير، والأثر الثاني يرتبط بمدى الاستفادة من النمو المحتمل في الاقتصاد الإيراني، بعد رفع الحظر، على حركة التجارة والاستثمار في المنطقة.
أنصح المنطقة العربية باستغلال انخفاض أسعار السلع التعدينية والاتجاه إلى مشروعات البنية التحتية ونصح محيي الدين المنطقة العربية والخليجية بأن هناك فرصا ذهبية أمام منطقة الشرق الأوسط لاستغلال الانخفاضات في أسعار الخامات والسلع التعدينية والاتجاه إلى مشروعات البنية التحتية، والاهتمام بالاستثمار في مشروعات الطاقة المتجددة مع المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي، ومشروعات التوافق البيئي لاحتواء الأثر السلبي لانبعاثات الكربون، وتتميز مشروعات البنية الأساسية في عدد من الدول العربية بارتفاع كثافة العمالة بها، بالمقارنة بذات المشروعات في الدول الصناعية، بما يجعلها مجالا مهما للتشغيل المباشر وغير المباشر، ومع انخفاض أسعار السلع الزراعية دون توقع بارتفاعها في المستقبل القريب فإن هذا يعطي الفرصة للدول التي تتوفر لها سيولة مالية وقدرة ائتمانية أن تبرم تعاقدات طويلة الأجل في استيراد سلع أساسية مثل القمح مع ربط أسعار التسليم للفترة القادمة.
وأشار إلى أن هناك فرصا كبيرة متاحة للاستثمار في تكنولوجيا المعلومات وإدراج هذا القطاع في النشاط الاقتصادي مثل تحويل الأموال عبر تقنيات الهاتف الجوال وغيره من حلول وابتكارات. وهناك أهمية كبرى الآن لزيادة الاستثمار العام في مسندة مشروعات البحث والتطوير والابتكار التي لا يقوى عليها القطاع الخاص منفردا، هذا وقد طرح البنك الدولي إستراتيجية جديدة للتعامل مع التحديات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعتمد على بعد قطري لتطوير الأداء التنموي لكل دولة وفقا لاعتباراتها وظروفها الاقتصادية والاجتماعية، وهناك بعد إقليمي لهذه الإستراتيجية يتمثل في مشروعات في مجالات التعليم والتدريب والطاقة والمياه ويقوم حافظ غانم نائب رئيس البنك الدولي وفريق العمل معه بتطوير برامج تمويل هذه الإستراتيجية باستخدام المنح لتخفيض تكلفة التمويل مع استخدام ضمانات لتيسير توفير التمويل والائتمان للدول التي لا تستطيع الحصول على تمويل إلا بتكلفة عالية.
وأوضح أن هناك توقعات أن تتأثر الدول الخليجية المصدرة للبترول ومعها الجزائر بانخفاضات أسعار النفط، إلا أن هناك ترحيبا بالإجراءات الإصلاحية التي اتخذتها الدول الخليجية لإصلاح السياسات المالية العامة وتنويع مصادر الدخل، لذا فإن توقعات البنك الدولي لمعدلات النمو في الدول الخليجية ستكون في حدود 3.2% مع توقعات بتحسن في مستويات العجز في الموازنات العامة خلال عام 2016، وأن تكون أفضل مما كانت عليه خلال عام 2015. وقد بلغ عجز الموازنة العامة في دول الخليج إلى 9.4% من الدخل القومي الإجمالي وتقديرات البنك الدولي أن ينخفض عجز الموازنة العامة إلى 6% بفضل تلك الإصلاحات المالية الخليجية الجديدة.