كانت عيناى تمسحان ذلك الجسد النحيل من أطراف أصابعه الملفوفة بإحكام فى شراب شتوى وصولا إلى رأس يحمله جسدٌ نحيل تخضب رأسه ولحيته الدوجلاس بالبياض، عيناه الضيقتان الثاقيتان كصقر أنهى لتوه اقتناص غنيمة من فرائد الكتابة نظر إلى وجهى الملفوف بإيشارب أحمر قان لا يدانيه سوى لون وجنتى اللتين ألهبهما الصقيع، وخلته يقول فى نفسه كما قالها محمود أمين العالم من بعد: "برافدا محجبة!" كان ذلك وسيمفونية الأمطار تتساقط زخات زخات ثم ما لبث أن التفت إلى حذائى الذى تمنيت أن أخلعه وأقف بدونه حافية خشية أن تثيره شذرات الطين التى خلفها بقايا الشارع ولم أجد ما أتخلص فيه من نفاياتي! انتقلت عيناه إلى ممسحة خشنة وضعها أهل بيته أمام الباب، فشرعت أنظق خذائى بإهلاص وعيناى لا تبرحا وجهه دقيق الملامح. اتفضلي.. أهلاً وسهلاً، لم يكن عمق صوته بأقل من عمق نظراته، كيف صنع الله هذا الكيان الدقيق؟ وارتعش قلبى الصغير وأنا أحتضن أوراقى وأقلامي، حين أشار على بالدخول، التقطت أنفاسى على كنبة الأنتريه وجلس قريبا منى فى حين دخلت زوجته التى كانت أرق من اللازم، ومعها كوبان من الشاي، وضعتهما برفق ثم سلمت على وخرجت كالنسيم. أما هو، فاقترب منى وأنا أضع حاجياتى جانبًا، وأخرج رصيدى من الأسئلة التى سهرت لأيام وأنا أجهز لها، فلم تكن التكنولوجيا قد عرفت طريقها إلينا سوى الهاتف الأرضى والفاكس، لم يكن ميل ولا جوجل ولا تابلت، كان فقط أوراق برائحة الحبر الطازج، وأقلام وخطوط حية تسمع وترى وتحس. سألني: مش صغيرة ع الصحافة؟ رددت بسرعة طلقة خرجت من فوهة مدفع: أنا شاعرة، وبلدياتك قال: من فين فى الدقهلية؟ قلت له: المنصورة، قال: عشان كده جميلة! طيب يا ستي.. أنا من ميت القرشي.. يلله سمعينى حاجة، أخرجت من حقيبتى ديوانا صغيرا مطبوعا بطريقة بدائية ومرسوم عليه رجل وامرأة وقلب فارغ باللون الأحمر ومكتوب عليه "طقوس لبيع قلب" وقرأت له قصيدة، قال: أنت لغتك فيها حساسية وعذوبة وهاتكونى شاعرة كبيرة.. هنا انتقض قلبى الصغير، وهو يقول: يلله يا ستى هاتِ ما عندك.. وسار الحوار وهو مندهش من مناقشاتى معه، اختلافى واتفاقى وفتحى لجروح كثيرة كانت عيناه تبرق حين يتحدث عنها، وعلى الرغم من الارتباك الذى كان يحدوني، لكنه أخبرنى أنه فوجيء بأننى قرأته وقرأت معظم أعماله وأن اهتمامى منصب مركزة جدا على أيام "الإنسان السبعة" خاصة، علاوة على الأشواق والأسى ومحاولة للخروج ولما سألنى عن تركيزى على أيام الإنسان السبعة قلت له: أحبها فعمرها من عمري، فأهدانى أعماله كلها موقعة وكانت علاقة أبوة، أتواصل معه عبر الهاتف يتابعنى وأطمئن عليه حتى اشتد مرضه، وغادرنى بلا وداع تاركا فصول روايته "كفر سيدى سالم" التى لم تكتمل !