في أول الصباح فوجئت بشائعة عن رحيل فيروز إلي الآخرة, فظللت جالسا في ركني, متفاديا التطفل علي آلامي, اخترقت موسيقي خفيضة جدا ذلك الصمت المهيمن علي غرفتي, أدرت رأسي, فرأيت امرأة نحيلة جالسة علي مقربة مني. كانت نحيلة جدا, وترتدي قميصا أسود من دون كمين, وسروالا أحمر ضيقا, لم يغب عني أنها كانت وسيمة بشعرها الطويل, ووجهها الذي يكاد يكون مختفيا خلف نظارتها, وسيمة بصمتها الملآن. أذكر أنني ملت برأسي جانبا محاولا أن أحدد عمرها, وإلي أي مدي أجدها فاتنة, جلست فاغر الفم, أحدق إليها بإعجاب شديد, لكنها فاجأتني وأنا أختلس النظر, ارتبكت قليلا ونظرت إلي الجانب الآخر من الغرفة, كم كانت دهشتي عندما رأيت ظلها, أرحت صدري علي ظهرها المتصبب عرقا, فاضطربت أصابعي, وسقطت الأشياء التي كنت أحاول إمساكها, أغمضت عيني, فسمعتها تغني مصر عادت شمسك الذهب, رأيت هدي الجميلة في شرفتها الخلفية المضاءة, وسمعت فيروز تهمس في أذني بأغنية طلبت مني أن أرنمها, حتي تصل إلي أذني هدي, حبيبي بده القمر, والقمر بعيد, والسما عالية, مابتطالها الإيد, صحيح أنني لم أجرؤ علي رفع صوتي, لكنني تمتمت: حبيبي بده القمر, في تلك اللحظة تهيجت فيروز, ولكزتني بيدها العصبية, وقالت لي اعترف, قل لها: أحبك, فهززت رأسي بعلامة الرفض, رفعت فيروز صوتها و صرخت, أنت جبان, أظن أن هدي سمعتها, بعدها انطفأت أضواء الشرفة الخلفية واختفت هدي, عدت إلي غرفتي ورأيت بوضوح المرأة النحيلة جدا, المرأة العالية, بالنسبة للنساء, كان السروال الأحمر يبرز تقاسيمها بثقة, وبينما كنت أراقبها, لاحظت أنها بدأت تسير أمامي, متبخترة وبخطوات أنيقة جدا, ولم تكد عيناي تستقران علي شفتيها حتي توقفت فجأة عن المشي, والتفتت نحوي, تركت عيني تجولان علي جسدها وهي واقفة أمامي بارتياح, إنها فيروز التي مازالت في عالمنا, لقد لمستني بسبابتها, وبدأت أعترف لنفسي بأنه مضت أزمنة طويلة منذ أن لمسني أحد بهذه الطريقة الحميمة, أعرف ومنذ مراهقتي, أن بيروت احتجزت قلبي, حتي إنني صرت إذا حاولت أن أسترده, أفلت مني, ومع ذلك لم أستطع أن أطأ أرض بيروت, إلا بعد أن ضاع قلبي تماما, دخلتها أول مرة, دخول اللحم في اللحم, كنت أيامها قد جاوزت الخمسين, وفي شوارع الحمراء حكت لي صديقتي اللبنانية عن أنها في صباها, رأت ذات مرة سيارة فيروز تمر بأحد الدروب, كان السائق ينظر أمامه في تصميم, وكانت فيروز تجلس علي المقعد الخلفي وترفع ساقيها إلي أعلي, باتجاه النافذة جهة اليمين, وتخرجهما, هل كانت تنتعل صندلا مفتوحا علي أصابعها, أم كانت حافية, الأكيد أن أصابع قدمها كانت ملساء, مما يبعث علي الابتسام, نظرت إلي عيون صديقتي وهي تحكي, لأقيس مدي صدقها, فتملكتني نشوة أن فيروز جعلت أعضاءها مأوي لخواطرها, كأن رفعت قدميها وأخرجت لسانها, وأخرجت لساني, وتملكني استغراب من نشوتي تلك التي استحكمت وأصبحت مصحوبة بنشوة ثانية, لأنني بقوة التأثير تماديت في إخراجه, أي لساني, استغربت صديقتي ما أفعله, ضغطت بأصبعها السبابة علي صدري, وقالت لي: أنت مجنون مثلها, ولما رأتني أضحك فرحا, سألتني, ما الذي يفرحك, قلت لها: حنجرتك التي عجنت اسمي مع اسم فيروز, قالت: فقط, قلت: بالإضافة إلي اختلاط عجينة اسمينا بلعابك, ثم ها أنت تتفلين العجينة من قبل أن أقبل فم فيروز, ففي الليالي المخيفة كم تمنيت أن أكون حارسها, وفي الليالي البيضاء أن أكون عاشقها, وفي ليالي أفول القمر أن أكون إشبينها, أذكر أن صلاح عبد الصبور كان يقودني أحيانا إلي مخابئ لا أعرفها, ذات مرة قادني إلي ديوان الخليل, خليل مطران, وزعم أن إبراهيم ناجي هو الذي ورطه, ودفعه إلي استعارة أجزاء الديوان الأربعة من مكتبة باب الخلق, قال صلاح, لقد أنفقت معه بضع ليال, انتهت إلي إحساس غير قليل بالندم, كنت جاهزا لمحبة خليل, فهو لبناني صرف, وعاشق لمصر, وهو أب وقور للشعراء الرومانسيين المصريين جميعا, وهو صاحب نبض شعري جديد علي مطالع القرن, يقصد القرن العشرين, نبض يختلف به كل الاختلاف عن حافظ إبراهيم, وبعض الاختلاف عن أحمد شوقي, وهو نحيل مثل عود قصب, نحيل مثل قصيدة علي الحدود, لكنني وياللأسف بعد أن قرأت ديوان الخليل, صدقت صلاح, وتبعته في اتجاه مخابئ أخري, ذات مرة شعرت بيد قوية علي كتفي, كنت بين حلمين, كان اليهودي راشم الصلبان, وقبل أن أقوم بأي رد فعل, أدارني بعنف محموم وشدني نحوه, فاستسلمت, واستندت إلي جدار الطين عيناه تحدقان إلي بنظرة منومة, ولسانه يروضني, في آخر الحلم أنقذتني, كنت معتادا علي محاولات صلبي, وعلي تطوعها لإنقاذي, تقول لي: يا حبيبي أنت حلو, فأستأنس وأنتظر أن تسألني هل تلاحقني, أقول:كلا..إنني ذاهب إلي الفن, تصمت فأومئ برأسي, كنا أحيانا بعد هذا الحوار نقف علي ذلك الطريق المعزول نتبادل النظرات, هي تتفرس في وجهي وأنا أحاول جاهدا أن أجد ما أقوله, أنت حجر الزاوية, تضحك وتقول: أنا صليبك, كنت مثل صلاح قد أصبحت من عشاقها, ومثله كنت أعلم أن صوتها من أخصب الأصوات, وأن نبرته الكبري أنك حين تسمعه تحس أن كل كلمة مما تغنيه تحمل معانيها كاملة, ولما رأيت صلاح يقول: إن صوت فيروز مثل كلمات الشعراء, أصغيت أكثر, هم يستعملون الكلمة بجسدها وروحها, يستعملونها بكل أعضائها, فتصبح الكلمة كأنها كائن بشري كامل, وفيروز مثلهم, لذلك فإن صوتها هو أحسن الأصوات التي تغني الشعر, مازالت أقوال صلاح تعيش تحت جلدي إلا كلمة واحدة, طردتها, ورغبت لها أن تتسول, إنها كلمة يستعملون, الحقيقة أن الكلمة مثل جرذ أحس بكراهيتي فهرب, ذات مرة قادني صلاح إلي بكفيا في لبنان حيث تقيم فيروز, لم يكن بمفرده, كان معه صلاح جاهين واللبنانيان أمين الحافظ وليلي عسيران, فيروز جسمها صغير نحيل مثل جسم نجاة الصغيرة, هكذا رآها صلاح, فيروز عيناها قاسيتان كأنهما محملقتان, هكذا رآها صلاح, عندما خرج صلاح التصقت به, وخرجت معه, لكنه مثل شاعرمخذول تمتم بكلمات متناثرة, لم أستطع أن أفهمها, قال لي: كان الأفضل لخيالي أن أظل أحس بها نغما طائرا, وأن أتخيلها حديثا عذبا, وظلا رقيقا, ووجها ملائكيا, فوقفت وأوقفته, ونظرت في وجهه بعينين تشبهان عيني فيروز, عينين قاسيتين محملقتين, وقلت له: يا عم, هذا فراق بيننا, كنت أتخيل أن فيروز تدخر كل طاقتها لفنها, وأن صلاح استهان بعض الشئ بما تدخر, كنت أتخيل أنها لاتريد أن تبدد صوتها فيما قد يسلب أسرارها, وأن صلاح استهان بعض الشئ بما لا تريد أن تبدده, وعلي الرغم من أن جذور صلاح في قلبه, وأنه داخلي مثل فيروز, فإنه تهيج حتي ضل, فتخليت عنه كدليل, مسحت الغبار عن سروالي الجينز الأزرق, وقلت له: من الأفضل أن أرحل, قال: أجل, معك حق, نحن عالة علي الغرب الذي سخره الله لنا, نحن لا نسهم سوي بالاستهلاك والتبعية, هل يكفينا أننا أزحنا الستار عن السماء وفرشناها تحت رءوسنا فكان الدين, صدرناه وحميناه بالصراعات حوله, هل يكفينا أننا عرفنا الحب, فكانت هدي الجميلة, وعرفنا الفن فكانت الجنة العذراء. المزيد من مقالات عبدالمنعم رمضان