انفجرت موجة واسعة من الغضب بين المثقفين المصريين في الأسبوع الماضي , و اتسعت الدائرة اللاهبة من النقمة طولا و عرضا , و انداحت في كل اتجاه لتدين الشاعر ( فاروق شوشة )الذي وقع في مرمى سهامهم المسنونة القاسية للمرة الأولى _ في حدود ما أعرف _ لأن شاعرنا الكبير ممن يفهمون معادلات الوسط جيدا و يتعاملون بحنكة كبيرة مع توازناته ! كانت لغة الشجب و مضامينه شديدة القسوة , حتى قال أحد الشعراء : ( ..إنها شهادة النهاية لفاروق شوشة , بعد أعمار طويلة من التألق و تصدر المشهد ! ) و كانت معظم الإدانات جارية في هذا المجرى . و خطيئة الشاعر ( فاروق شوشة ) _ فيما يرى هؤلاء _ أنه وصف ( المثقفين ) ب ( خدم ) السلطة في قصيدة بعنوان : ( خدم ..خدم ) ! و قد بدأت الأحداث عندما حل ( شوشة ) ضيفا على ( معرض الشارقة ) في دورته الرابعة بعد الثلاثين , و دعاه مدير بيت الشعر في الإمارات ( محمد البريكي ) لإلقاء بضع قصائد على المسرح المعد لذلك , و ارتقى ( شوشة ) المسرح . و تلا على المسامع قصيدته : ( خدم ...خدم ) , و مطلعها : ( خدم ..خدم و إن تبهنسوا و صعروا الخدود كلما مشوا و غلظوا الصوت فزلزلوا الأرض و طرقعوا القدم ! ) و كانت عملية الإدانة للقصيدة صادرة من أجيال مختلفة , و في صدارتها الجيل الستيني نفسه , و هو الجيل الذي ينتمي ( شوشة ) إليه بالسياق الزمني و الميراث الوجداني . و هنا يحق لي أن أعلق على هوامش المعركة الجارية منذ أسبوع , و أن أطرح سؤالا مباشرا لصفوتنا ( المهيبة ) التي انتفضت لرجم ( شوشة ) و تطبيق ( حد التطاول ) عليه لأنه تجرأ و مس الذات ( النخبوية ) المصونة( التي لا تمس ! ) : هل أخطأ شوشة حينما وصف النخبة المثقفة بالخدم ؟! و هل أزعجكم حقا هذا الوصف و أحنق صدوركم ؟! هل اعتبرتم أن كلمة ( خدم ) خادشة لجلالتكم و مهينة لأدواركم عبر ستة عقود من الزمن ؟! و إذا لم تكونوا حقا خدما للحاكم تبررون أخطاءه و ترقصون لكرباجه السوداني الغليظ الذي نهش كل الظهور و طمس الروح و سحق الإنسان الذي فينا , فهل كنتم _ على الضفة الأخرى _ ضميرا للبسطاء و ترجمانا صادقا لأشواق الشعب الطامحة إلى الحرية و العدالة الاجتماعية ؟! هل دافعتم بجسارة و صلابة عن دولة القانون ؟! و هل أبديتم حراكا و الأبرياء و الرموز _ عبر ستة عقود _ يساقون إلى أقبية المعتقلات و الموت ؟! هل أغضبكم شوشة لأنه أنكر تاريخا توهمتم أنكم صنعتموه يوما , أم لأنه أثبت تاريخا حقيقيا غير زائف تآمرتم , بطريق التواطؤ , على كتمانه ؟! قديما قرر ( جمال عبد الناصر ) , أن يبطش بالعملية السياسية برمتها فحلت كل أطياف الفكر المصري من يمين و يسار ووسط ضيوفا على السجن الحربي و معتقل الطور , و تعالت دفوف التأييد من طرف النخبة المبجلة لتدق طبول التأييد و السحل الجماعي ! و لم تكن مفاجأة أن كثيرا من المؤلفات التي شكلت الوجدان الستيني و السبعيني , قد كتبت في السجن الحربي و تشكلت على ضوء الشموع ! هل كان هذا دورا لائقا بتنويريين أحرار ذوي رؤوس مرفوعة , أم بخدم يتحركون قسرا بإشارة الأصبع ؟! و حينما قرر ( السادات ) إيداع خلاصة العقل المصري في معتقلاته _ بقرارات سبتمبر الشهيرة _ هل أبديتم تذمرا يعتد به أم عاودتم دق الدفوف الغوغائية نفسها و التمستم للجريمة السياسية النكراء عشرات الأعذار ؟! و هل أبديتم تذمرا يعتد به , حينما قرر ( مبارك ) أن يجهض الحريات , و يتلاعب بالمثقفين كعرائس ( الماريونيت ) و يطوح بهم يمينا و يسارا كالدمى ملوحا بالعصا معظم الوقت و بالجزرة بعض الوقت ؟! هل غضبتم بصورة ملموسة حين اعتدت السلطة على المفكر الكبير الراحل د ( عبد الوهاب المسيري ) فأسقطه رجال الأمن على الأرض , دون أن يحترموا شيخوخته و لا تاريخه , ووقفتم على سلم نقابة الصحفيين تتصنعون التجاهل و تشيحون بوجوهكم في هلع و استخذاء و جحود ؟! في كل مرة كنتم تتجردون عن ثوب الحضارة الذي يعرفه العالم و تهيبون بالدفوف الغوغائية نفسها تقرعونها تأييدا ,كما تصنع قبيلة بدائية لم يصلها مشعل الحضارة يوما ؟! هل كنتم تتجاسرون _ إلا باستثناءات نادرة _ أن تواجهوا سلطة بتذكيرها بجرائمها أو بمحاسبتها على الاستهتار بالحقوق و الحريات و إجهاض العدالة الاجتماعية ؟! و هل تتجاسرون الآن على القبول باستفتاء شعبي عام في تقييمكم و إبراز أدواركم لتعرفوا رأي الشعب فيكم صراحة و دون تجميل بالمساحيق و الأصباغ ؟! أم ستقولون كلمتكم التاريخية الشهيرة : ( ..شعب لم يتهيأ للحرية بعد ! ) هل أخطأ شوشة حقا حين وصفكم ب ( خدم السلطة ) و قال فيكم : ( بأصبع واحدة يستنفرون مثل قطعان الغنم و يهطعون علهم يلقون من بعض الهبات و النعم لهم , إذا تحركوا في كل موقع صنم ) إلى أن يقول : ( ..يكبرون و يهللون من حوله يسبحون باسمه و يقسمون يسجدون , يركعون يمنعون في رياء زائف و في ولاء متهم ) هل كان شوشة متجنيا على تاريخكم و حقيقة دوركم المتأصل _ عبر عقود _ بوقا للحاكم أيا ما كانت نزواته و مهما بلغ شططه ؟! لماذا غضبتم الآن هذه الغضبة المضرية الجماعية ضد شوشة ؟ هل لأنه أعطاكم _ بدلا من الدفوف الغوغائية _ مرآة لتروا وجوهكم كما هي ؟! و هل تغير مسلككم بعد ثورة 25 يناير أم مازلتم بمواقعكم العتيقة ذاتها و بذات المنطق التأييدي الأعمى الأصم ؟! ألم يخرج ( يوسف القعيد ) من لقاء المثقفين الشهير مع ( مبارك ) ليكتب مقالة في رجال الأمن _ آنذاك _ بعنوان : ( إنسانية رجال الرئيس ! ) و لم يكن دم خالد سعيد قد جف بعد ؟! ألم يشد ( نجيب محفوظ ) ب( يوسف والي ) _ على الملأ _ و هو يباشر تخريب قطاع الزراعة و ( سرطنته ) عبر سنوات كالحات ؟! ألم يطالب ( بهاء طاهر ) _ قبل أشهر _ بإغلاق الجامعات عامين ( أي و الله عامين كاملين ! ) لتأديب الطلاب و إسكات ضمير مصر الطلابي ؟! ألم يقل ( يوسف زيدان ) صاحب ( عزازيل ) مرارا , في منطق سياسي متقيح أذهل الجميع , إن المصريين ليسوا مؤهلين للحريات بعد و لا لأي تجارب ديمقراطية , و لم ينبس ببنت شفة و هو يرى مسارا مظلما يفضي إلى تبديد آخر ما تبقى من مظاهر الحريات و العدالة الاجتماعية على السواء ؟! في كل مرة كنتم شهودا ومشاركين في مقايضة سمجة بين الحريات و لقمة الخبز , و في كل مرة تسارعون إلى إقناع الشعب بمنطق ملتو بالتخلي عن الحريات من أجل لقمة الخبز , ليجد الشعب في كل مرة يده تصفر من الحريات و لقمة الخبز معا بفضل مشورتكم الكارثية و منطقكم المسموم المضاد لروح العصر ولأية فطرة سوية ! و ليس معنى كلامي أن شوشة و جيله بعيدون عن عباءة الفعل الثقافي الجماعي المخجل عبر عقود , لقد زاملت شوشة في لجنة الدراسات الأدبية بالمجلس الأعلى للثقافة عامين , وتشاركنا في عدة ندوات كان آخرها ندوة قبل شهر في تأبين الشاعر الكبير الراحل ( حسن توفيق ) و صافحني شوشة بحرارة و دماثة ,مذكرا بالأيام الخوالي في زمالة اللجنة , و لكن هذا الود الذي يجمعني بالرجل و الذي أعتز به حقا , لا يمنعني من القول إن الجيل الستيني الذي ينتمي إليه شوشة كان هو الحضانة الكبيرة التي ولدت فيها ثقافة الدفوف و التأييد للحاكم القديس الذي لا يخطيء ! و هي مدرسة مظلمة ندفع ثمنها الآن دما و نارا ! يكتفى المثقفون المصريون , في علاقتهم المركبة بالحاكم و المحكوم , بما أسماه المفكر الكبير الراحل ( إدوارد سعيد ) ( ( 1935_ 2003 ) : ( بلاغة اللوم ) , بمعنى إلقاء اللوم في كل فاجعة , على الاستعمار الخارجي أو تيارات سياسية معارضة بعينها أو الشعب نفسه , دون أن يقترب اللوم من الحدود المهيبة للحاكم , بوصفه قطبا نبويا لا يجوز عليه الخطأ ! الآن تتكشف الصورة , كما لم تتكشف من قبل , و تظهر الصفوة المثقفة في حال من التعري و الانكشاف الكامل على نحو غير مسبوق , و لمثل هذه النخب ذات الدفوف و الطبل قال المثقف الفرنسي الكبير ( أنريه مارلو ) وزير الثقافة الفرنسي في حكومة ( ديجول ) : ( ..الإنسان الجاثي على ركبتيه لا شرف له , مهما كانت معتقداته و دعاواه ..) . لا تنزعجوا أيها المثقفون كثيرا و لا تبتئسوا من قصيدة شوشة , لأن الشعب المصري اتخذ قرارا جماعيا في تقديري بما هو أكثر من ذلك , أعني تكهين النخبة المسيطرة فعليا و تخليق نخبة أخرى تلائم طموحاته إلى الحرية و العدالة الاجتماعية .تمتعوا قليلا بما بقي من الأسلاب و الغنائم , فالقادم بالتأكيد ليس لكم و لن تكونوا جزءا منه !