لم يمر على إعلان السلطات التونسية، القضاء على معظم قيادات كتيبة "عقبة بن نافع"، جنوبي البلاد، سوى 3 أشهر ونيف، حتى ظهرت الكتيبة من جديد عبر إعدامها راعي أغنام، في محافظة القصرين (وسط غرب)، في حادثة ألقت بظلالها السلبية على سكان المنطقة الذين بدأ البعض منهم بالنزوح. وبعد اختطافه بيومين في جبل "سمامة" بمحافظة القصرين، أعلنت كتيبة عقبة بن نافع عبر موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، في ال14 من الشهر الجاري، إعدامها لراعي الغنم، نجيب القاسمي. ويقع جبل سمامة، قرب جبل الشعانبي الذي تتحصن فيه الكتيبة، المرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. وقالت الكتيبة في تغريدة لها "نعلن مرحلة جديدة في الصراع مع الطواغيت وأعوانهم وأوليائهم الذين يعاونون بالإبلاغ عن المجاهدين"، في وقت أعادت فيه نشر تحذير أطلقته في سبتمبر/أيلول الماضي، جاء فيه: "ننصح المغرر بهم من الرعاة، وحراس الغابات والمتعاونين مع حكومة الردة، ألا ينخدعوا بوعود الطاغوت". وقبل هذه الحادثة، اعتقد مراقبون أن الكتيبة قد انتهت، لاسيما بعد إعلان وزير الداخلية التونسي، ناجم الغرسلي، في ال 13 من تموز/يوليو الماضي، القضاء على معظم قياداتها خلال عملية أمنية تم تنفيذها ضد عناصر وصفها ب"الارهابية"، في محافظة قفصة، جنوبي البلاد. وذكر الوزير في مؤتمر صحفي، آنذاك، أن العملية التي جرت في العاشر من الشهر نفسه "أسفرت عن مقتل 5 عناصر إرهابية، أبرزهم مراد الغرسلي، المُكنى بأبي البراء، والذي خلف الجزائري، خالد الشايب، الملقب بلقمان أبو صخر، في قيادة التنظيم، بعد مقتل الأخير في عملية أمنية مماثلة في مارس/أذار الماضي، بمحافظة قفصة". الأناضول زارت منطقة جبل سمامة، والتقت عددًا من سكانها بينهم عائلة الراعي، والذين عبروا عن مخاوفهم من عودة هذا التنظيم، في الوقت الذي بدأ فيه البعض، في حزم أمتعته والرحيل من المكان، خوفًا على حياته. "كنا نعيش هنا بدون ماء صالح للشرب وقلنا لا مشكلة.. نتحمل السير دون طريق تصلنا بالمدينة وقلنا لا مشكلة.. بطالة وفقر ومنسيين، أيضاً ليس مشكلة، لكن هذه المرة يأتينا الذبح!"..كلمات اختزلت بها المسنة محبوبة، والدة نجيب، إحساسها بعد فاجعتها الأخيرة بنجلها. وتساءلت في حديثها مع الأناضول: "ما الذي يُبقينا في هذه المنطقة؟ ( ) بعض الأغنام سنبيعها ونهجر المكان". ما عبرت عنه محبوبة، تحدث عنه الكثير من أهل المنطقة، الذين تساءلوا عن الضامن لهم من أن هذه المجموعات "الإرهابية" لن تستهدف المنازل والأطفال والفتيات. الهادي القاسمي، قال: "وراء هذه الربوة منزل عمي الذي شحن اليوم أدباشه (أغراضه)، ورحل، خوفًا على حياته وحياة أبنائه". أما يوسف القاسمي، الذي يعمل بمدينة القصرين (تحمل اسم المحافظة نفسه)، فانتقد موقف السلطات، قائلًا: "يبدو أننا كمواطنين هنا، لا نعني شيئا للسلطات، هددوا ثم نفذوا (يقصد الكتيبة) ولا يوجد من يطمئننا على حياتنا، نحن خارج حسابات الجميع، أصبحنا ضحايا، وأصبح الخوف يلازمنا". وأضاف: "الجميع هنا مستاء ومذهول وخائف، ولا حل إلا الهجرة، لا نستطيع مواجهة السلاح، ولا بوادر لحمايتنا". وتابع معربًا عن استغرابه من رد فعل السلطات: "كأن الأمر عادي، فعندما تحركوا (المسؤولون) زاروا منزل المرحوم نجيب، ولكن المسألة تتعلق بالمنطقة بأكملها، كيف نؤّمن على أنفسنا بعد هذه الحادثة". سامي، شقيق الراعي، أصبح يخاف على حياته من الموت على أيدي عناصر الكتيبة، كما يقول: "كنت دائمًا أرافق أخي في رعي الأغنام بالجبل، اليوم أصبحت مهددًا، سواء في المنزل أو خارجه، فقدنا مرعى أغنامنا نهائيًا، وفقدنا بذلك ما يساعدنا على التصدي للتكاليف المرتفعة لتربية الحيوانات". لكنه بدا أكثر إصرارًا من غيره، على البقاء، شرط توفر "الاطمئنان والأمن"، مستطردًا: "إذا ما أظهرت الدولة الاهتمام بالأمن، مثل توفير دورية مراقبة قريبة من المنطقة، والاهتمام بالسكان وظروف حياتهم، وقتها سنتمسك بأرضنا، وخلاف ذلك سيهيمن الخوف علينا وسيزداد". غير أنه أردف بقوله: "لا شيء تغير على المستوى الأمني، والأكثر إيلامًا، هو أن السلطات العليا في البلاد لم تولِ أهمية ولا اعتبارًا لما حدث لأخي، حيث لم يحضر أي مسؤول حكومي جنازته (رغم حضور محافظ القصرين)". ليتدراك سامي برهة، ويقول إنه معني بالإبلاغ عن هؤلاء المسلحين "لتوقي شرهم"، مضيفًا "في النهاية هم لن يربحوا معركة الترهيب والتخويف وإن نجحوا في نشر الخوف". ولم يصدر عن السلطات الرسمية أي بيان يؤكد فيه أو ينفي، ما ذكرته الكتيبة حول تعاون نجيب مع قوات الأمن، لكن عائلة الراعي تؤكد أن نجلها وبحكم توغله يوميًا داخل الجبل كان يتصل بالسلطات لمعرفة ما إذا كان هناك قصف في الجبل ليتفاداه. ويقول سامي إن شقيقه "كان على اتصال بالجهات الأمنية والعسكرية، وأن الجيش كان يبلغه إذا ما قرر قصف الجبل حتى لا يكون هدفًا". وخوفًا أو حذرًا، لا يجيب أحد من العائلة بشكل قاطع ما إذا كان نجيب معنيًا بالتعاون مع السلطات الأمنية، خشية انتقام الكتيبة، لكن الجميع يشتركون في التأكيد على ضرورة التدخل العاجل للقضاء على هذه "الآفة". ويسكن جبال "الشعانبي"، و"السلوم" و"سمامة" والمناطق المحاذية، نحو 50 ألف شخص، وفقًا لإحصائية صادرة عن المعهد الوطني للإحصاء (حكومي)، العام الماضي، لكن هذه الأرقام في تراجع، وذلك بعد إعلان السلطات أن المنطقة مغلقة، وشن عمليات عسكرية فيها تعقبًا لجماعات إرهابية منذ 2013. وفي مثل هذه المناطق الريفية حيث ترتفع نسبة البطالة ولا تبدو الأنشطة الزراعية قادرة على استيعاب الكثيرين، يلجأ البعض إلى النزوح للمدن الساحلية للعمل في مجال البناء، تاركين وراءهم الأبناء والزوجات وحدهم، لكن بعد هذه الحادثة يصر أغلبهم على أن الأمر الآن أصبح خطرًا وغير مأمون، بعد تهديد الكتيبة. يسري الدالي، باحث أمني، قال للأناضول إن "كتيبة عقبة بن نافع بقتلها نجيب القاسمي وتبنيها العملية، ترسل رسائل محددة، منها أنها باتت تشعر بتهديد فعلي من السكان، بعد قطع الإسناد اللوجستي الذي استفادت منه لفترة طويلة عبر شبكات من بينها التهريب". وأضاف: "الكتيبة ووفقًا لأبحاث أمنية، كانت سخية في تقديم مقابل للدعم والمؤونة، وجرّت الكثيرين من المواطنين للتعاون، وقد تمكنت الأجهزة الأمنية من تفكيك هذه الشبكات، وهو ما دفع الكتيبة للقيام بعمليات سطو على المنازل، والمحلات في مرحلة أولى حتى وصلت إلى الاختطاف". واستطرد بقوله: "رسالة أخرى وجهتها الكتيبة لساكني المناطق القريبة من الجبال بأن تعاونوا معنا، أو مصيركم الموت، وهي رسالة يجب أن تتلقفها الجهات الحكوميّة". ورأى الباحث الأمني أنه كان يجب على الجهات الحكومية، بعث رسالة طمأنة للسكان، بأن الدولة تقف إلى جانبهم. لكن ذلك، بحسب الدالي، لم يحصل، إذ أضاف "لم يحضر أي مسؤول حكومي جنازة نجيب، وهو أمر غريب يؤكد أن الطمأنة لم تصل للسكان، وهو أمر قد يخدم الكتيبة ويساعدها في ترهيب الأهالي". الجهات الحكومية، ورغم أن تمثيلها في جنازة الراعي، كان ضعيفًا، واقتصر فقط على حضور محافظ القصرين، الشاذلي بو علاق، إلا أن كاتبة (وزيرة) الدولة المكلفة بملف الشهداء وجرحى الثورة، ماجدولين الشارني، زارت لاحقًا، عائلة الفقيد، لتقديم التعازي. وعلى هامش الزيارة قالت الشارني للصحفيين: "نحن هنا اليوم، بتكليف من رئيس الحكومة (الحبيب الصيد)، جئنا لزيارة عائلات الشهداء (عائلة القاسمي، وصالح الفرجاوي وهو إمام جامع عُثر عليه مقتولًا الشهر الماضي، وتبنت الكتيبة قتله مؤخرًا)". وأضافت الوزيرة: "أؤكد حرص الحكومة على الإحاطة والاعتراف بالتضحيات التي قدمها التونسيون في إطار مكافحة الإرهاب"، مشيرة إلى قرارات استثنائية أقرها رئيس الحكومة لفائدة عائلات "الشهداء" ( مساكن ومنح مالية وفرصة عمل لفرد من العائلة، إضافة إلى العلاج المجاني). وتابعت: "الجهة الجبلية تعاني من إرهاب وخوف مستمر يتطلب عناية وإحاطة نفسية وهو أقل واجب"، مشددة على أن "مكافحة الإرهاب هي مسؤولية كل التونسيين من الراعي البسيط إلى كبار المسؤولين"، لافتة أن الحكومة "حريصة على التكفل والعناية بسكان المناطق الجبلية الذين يواجهون يومياً خطر الإرهاب ".