مع انتهاء عملية انسحاب القوات الأميركية من العراق، غدت العملية السياسية في البلاد على المحك، فقد بُنِيَتْ هذه العملية بدعمٍ من الولاياتالمتحدة وبضمان وجودها العسكري، فضلًا عن أن قواعد هذه العملية قد قامت أساسًا على أرضية طائفية وإثنية لا تخطئها العين. فالتوتر المتصاعد الآن في المشهد السياسي العراقي غداة خروج القوات العسكرية من البلاد، يبرز هشاشة الوضع السياسي بإجمال، واتفاق تقاسم السلطة التي وقِّع العام الماضي بوجه خاص. هذا التوتر يأخذ مسارين أساسيين: المسار الأول هو سعي القوى السياسية الشيعية لتعزيز هيمنتها السياسيَّة، التي يأرَّخُ لها بالغزو الأمريكي للعراق في 2003، والثاني هو سعي القوى السياسية السنية لمقاومة التهميش المتزايد لها الذي يأرَّخ له كذلك بدخول القوات الأمريكية إلى البلاد. كان الشيعة هم المستفيد الأول من سقوط نظام «صدام»، وخلال ما يقارب التسعة أعوام الماضية استطاعت الفصائل السياسية الشيعية بسط هيمنتها ونفوذها على الحكومة المركزية؛ كون الطائفة الشيعية تمثل غالبية سكان العراق. ولكن الواقع أن الوجود العسكري الأميركي كان ضمنيًّا داعمًا لهذه الهيمنة، وذلك بمواجهته للمجموعات المسلحة السنية، ومنعها من تقويض الحكومة المركزية. ولكن مع الانسحاب الأمريكي ستواجه قبضة الشيعة على نظام الحكم والمجال السياسي تحديات كبيرة. يسعى رئيس الحكومة «نوري المالكي» حاليًّا إلى تثبيت نفوذ حكومته ومد سيطرتها الأمنية على المناطق السنية، وقد قامت قواته بالفعل بعدة حملات أمنية لهذا الغرض. منها الحملة التي شنَّتها القوات الأمنية التابعة للحكومة المركزية الشهر قبل الماضي، وتم خلالها اعتقال المئات من الضباط السابقين بالجيش وصِفوا بأنهم «من قياديي حزب البعث المنحل»، كلهم ممن ينتمون إلى الطائفة السنية، وفي محافظات يسكنها أبناء الطائفة بالأساس، وأدت الاعتقالات إلى تظاهر الآلاف من أهالي محافظة الأنبار – معقل السنة - ضد حملات الاعتقال التي طالت عددًا من أبناء محافظتهم. وفي مواجهة هذا كان تصويت مجلس محافظة صلاح الدين - ذات الغالبية السنية - بالأغلبية لصالح تحويل المحافظة إلى إقليم، وتصاعدت الأصوات في محافظة الأنبار المطالبة كذلك بتحويلها إلى إقليم، وسارت على نفس الدرب في الأسبوع الماضي محافظة ديالى، ولكنها شهدت اضطرابات أمنية في أعقاب إعلان حكومتها المحلية تشكيل إقليم، حيث رفضت عشائر ومدن ذات غالبية شيعية القرار. تظهر هذه التحركات من مجالس المحافظات ذات الوجود السني الكبير سعيًا من السنة إلى مزيدٍ من الاستقلالية عن الحكومة المركزية التي يتهمونها بتهميش أبناء محافظاتهم سواء في المناصب الرسمية أو في توزيع عوائد النفط. وبالتالي تسعى هذه القوى من خلال هذه التحركات إلى الحد من سلطة حكومة المالكي، وتحقيق قدر من الاستقلال الإداري والمالي والقضائي والأمني. يمثل الانسحاب الأميركي إذًا فرصة لكل الأطراف السياسية العراقية لإعادة ترتيب الأوضاع وفقًا لمصالحها، الشيعة ممثلين بالحكومة المركزية يسعون إلى تمهيد الطريق لنفوذٍ أوسع، والسنة ممثلين في القائمة العراقية إلى إعادة ترتيب قواعد اللعبة التي أفضت إلى تهمشيهم إلى حدٍّ كبير. على الأرجح لن يدفع أحد من هذه الأطراف إلى هدم العملية السياسية، ولكن التنافس الناتج عن مساعيهم لاغتنام فرصة «الانسحاب»، سيجعل استقرار الوضع السياسي وبالتالي الأمني أمرًا غير مرجح.