تم بناء النظام السياسي العراقي بعد الاحتلال على أساسٍ طائفي وعرقي، وساهم-عمليًّا- بتقسيم العراق على هذا الأساس، و ما زال يواجه تحديات كبيرة بسبب التناحر المستمر بين كتله السياسية، والتي تحول دون الاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمني في البلاد. إلا أن الوجود العسكري الأمريكي شَكَّل على مدار السنوات السبع الماضية منذ دخول القوات الأميريكية العامل الأساس في حفظ التوازن الهش للنظام السياسي العراقي، ومع اكتمال هذا الانسحاب نهاية العام، تبرز المخاوف لدى كل القوى السياسية بشأن المستقبل. فالعراقيون السنّة فقدوا وضعهم المميز - نسبيًّا- في المجال السياسي العراقي بسبب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وفتح هذا الغزوالمجال لهيمنة القوى السياسية الشيعية تدريجيًّا عليه الآن. ومع انسحاب آخر أربعين ألف جندي أمريكي بنهاية العام الجاري، يبدو أن القوى السياسية السنّية وجدته فرصة لتعديل هذه الوضعية، والدفع ب«مظالمهم» للواجهة، في حين رأت القوى الشيعية الفرصة لتثبيت سيطرتها، واستباق أية تحديات لهذه السيطرة. في الحقيقة يبدو وكأن الصراع السياسي بين القوى السياسية العراقية يبدأ في التجدد مع قرب انتهاء عملية خروج القوات الأمريكية من بلادهم، وتجلى تجدد الصراع في أكثر من حدث شهدته البلاد مؤخرا. منها الحملة التي شنَّتها القوات الأمنية العراقية التابعة للحكومة المركزية الشهر الماضي، وتم خلالها اعتقال المئات من الضباط السابقين بالجيش وأعضاء حزب البعث، كلهم ممن ينتمون إلى الطائفة السنية، وفي أنحاء متفرقة من البلاد من ضمنها محافظة (صلاح الدين)، وصِفوا بأنهم «من قياديي حزب البعث المنحل». تزامن هذا مع إقالة العشرات من ضباط الأمن السنة أيضًا، فضلًا عن الحديث عن خططٍ لإقالة أعداد أخرى. هذا على الرغم من كون أعداد القيادات العليا السنية في الأصل ضئيلة للغاية إذا ما قورنت بأعداد نظرائهم من الشيعة؛ حيث تورد جريدة (وول ستريت جورنال) أن تسعين في المائة من القياداة العليا في أجهزة الشرطة من الشيعة مقابل 4.7% من السنة العرب، ثلاثة أرباع القياداة العليا في الجيش من الشيعة مقابل 13% سنة عرب. هذا كله فضلًا عن احتفاظ رئيس الوزارء العراقي بالإدارة المباشرة لكل من وزارتي الدفاع ووزارة الداخلية، فهو القائد العام للقوات المسلحة، كما أنه بمنزلة القائد الفعلي لوزراة الداخلية. وفي الحقيقة أن سعي (المالكي) إلى تثبيت سلطته في ضوء ميزان القوى الذي يميل لصالحه وصالح حكومته إنما يظهر الحساسية البالغة والقلق الذي ينتابه تجاه بروز أي تحدي لسلطته، كما يظهر حجم التحديات التي تواجهها الجماعة السنية في وجه السلطة المركزية. وفي مواجهة هذا كان إعلان تصويت مجلس محافظة صلاح الدين - ذات الأغلبية السنية - الشهر الماضي بالأغلبية لصالح تحويل المحافظة إلى إقليم، ورافق الإعلان تأييد عشائري واسع سواء في المحافظة، أو في محافظات أخرى ذات أغلبية سنية. حيث تظاهر الآلاف من أهالي محافظة الأنبار - ذات الأغلبية السنية كذلك - ضد حملات الاعتقال التي طالت أيضًا عددًا من أبناء محافظتهم. وتصاعدت الأصوات في المحافظة مطالبة بتحويلها إلى إقليم شأنها في ذلك شأن محافظة صلاح الدين المجاورة لها. وتُظهر هذه المحاولة استباق القوى السياسة من العرب السنة لانسحاب القوات الأميركية، وسعي تلك القوي لحماية نفسها من محاولات السلطة المركزية بقيادة المالكي للتمدد وبسط نفوذها على كامل الأراضي العراقيَّة، و استبعادها للقوى السنية عن مراكز الحكم وصنع القرار. ترى القوى السنية في هذه الخطة خروجًا من سيطرة الحكومة العراقية الشيعية والذي يزداد ثقل وطأتها يومًا بعد يوم، حيث تُوفر لها استقلالًا إداريًّا وقضائيًّا وأمنيًّا يمكّنها من الحد من هذه السيطرة. مَثَّل هذا التحرك بلا شك تهديدًا لهيمنة القوى الشيعية على الحكم، والتي مازالت في مرحلة التطور، تلك الهيمنة التي لم تكن ممكنة إلا بوجود القوات الأميركية وتصدّيها للجماعات السنية المسلحة. وبالتالي مع غياب هذا الوجود تصبح تلك الهيمنة محل شك. الأوضاع الحالية في العراق لا تبدو قابلة للاستمرار، ولا يظهر أن أحدًا من الأطراف يقبل بها، حتى المستفيد الجزئي منها (وهي القوى العراقية الشيعية)؛ لذا يحاول كل طرف من أطراف العملية السياسية العراقية تغييرها، وتعديلها لتأمين مصالحه، و يمثل الانسحاب الأمريكي الفرصة لتحقيق ذلك. ولئن كان الحضور العسكري الأمريكي في الماضي بمثابة حائل دون تطورحدة النزاع بين الفصائل العراقية ، فإن غيابه الآن سيجعلها وجها لوجه.