: قد تخفت جذوتها أو ينطفئ لهيبها أو يحبس صوتها شريطة أن تكون ثورات حقيقية: تنبع من رحم المعاناة وتنتج فكرا حرا مستنيرا مستشرفا ويقوم على تحريكها في أوساط المجتمعات كوادر: تؤمن بها، وترسم مسارها وجموع تتحرك بأمرها ورؤية واضحة تستقرئ الواقع بدقة، وتستشرف المستقبل بدقة. وقادرة على إدراك شبكات المصالح والتحالفات الإقليمية والدولية بدقة. وتعرف الثغرات التي تنفذ منها الدولة العميقة، وأصحاب المصالح الذين يريدون الحفاظ على مصالحهم. تعرف لغة الصراعات الإقليمية والدولية. وتعرف كيف تسير بسفينة الثورة في بحر الظلمات فلا يخرق سفينتهم: طامع، ولا جاهل، ولا راكب موجة. وتعرف كيف تقدم أفضل كوادرها للتعامل مع أزمات الواقع والمستقبل. الثورات الحقيقية لا تتحاكم إلى القوانين التي ثارت عليها. والثورات الحقيقية لا تحتكم إلى نظام القضاء الذي ثارت عليه. فالثورات الحقيقية لا توسد أمرها إلى من ثارت عليهم. ليست هناك ثورة حقيقية بلا فكر، ولا رؤية، ولا استراتيجية تغيير واضحة، ولا خطة عمل مرشدة. وليست هناك ثورة حقيقية لا تغير معادلات الواقع بما يحول دون عودة الدولة القديمة: رموز، وشخصيات، وأفكار، وشبكات تحالف ومصالح، ونظام علاقات. وليست هناك ثورة حقيقية لا تقوم بمحاكمات ثورية، ولا بعزل سياسي لكل رموز النظام الذي لم يبد بعد، ولم يلفظ أنفاسه بعد. وليست هناك ثورات حقيقية لا تقوم بمحاصرة أركان النظام القديم، وشل فعاليتهم عن أي محاولة للعودة مجددا، أو لإفساد المشهد السياسي القائم أو المأمول. وليست هناك ثورة حقيقية لا تقوم بتغيير الدستور والقوانين التي تشرعن النظام القديم ويستمد منها بقاءه، وتضفي عليه بعض ملامح الشرعية. الثورة تغيير كامل، لا هوادة فيه. والثورة عالم جديد، لا رموز ماضية معه. والثورة معادلات جديدة، لا ثوابت من النظام القديم فيها. الثورة روح جديدة تسري في الأمة فتحييها بقيمها ومفاهيمها وأفكارها وطموحاتها. الثورة فعل لا انفعال معه. والثورة قرار لا ردة فعل لتحركات الدولة القديمة ورموزها. والثورة استقلال لا ضغوط خارجية موجهة له. الثورة انطلاقة لا ترتيبات من تحت الطاولة فيها. الثورة دار من دخلها فهو آمن، ومن لزم بيته فيها فهو آمن. أمّا من حاول استعادة رموز الدولة القديمة، وتحالف معها، وصدّرهم أوراق يلاعب بهم الثورة فهو ليس بآمن، ولا مكان له في عالم التغيير الجديد. الثورات الحقيقية لا تستعين برموز النظام القديم، ولا تبيض صحيفتهم، ولا تسمح لهم بالتحرك في طول البلاد وعرضها تجميعا لمعالم نظام على وشك الزوال في الداخل، ولا تسمح لهم بنسج شبكة تحالفات مع الخارج تعمل على تقويض الحلم. الثورات الحقيقية لا تسمح لمرتزق بأن يركب موجتها أو يتحدث باسمها. ولا تسمح لمنتفع بأن يجني ثمارها، ولا تمنح للفاسدين ثمراتها حصادها. الثورات الحقيقية نور ونار: نور لأصحابها، ونار على أعدائها. نور يستضاء به في ظلمات الدروب، ومتاهات الاختيارات. ونار تحرق الطامعين، والطامحين، وفسدة النظام السابق، ومنافقي كل نظام. الثورات الحقيقية هي ثورات فكرية تحمل معالم رؤى جديدة يجد فيها أصحابها الملاذ الآمن من جور نظام مستبد فاسد. ثورات فكرية تطور وتنضج رؤى وتقدم حلول وتنسج سيناريوهات بديلة لما يوجهها من عقبات. الثورات الحقيقية تحتاج لبيئة داخلية مواتية، وظرف دولي يسمح بالتغيير. الثورات الحقيقية تقوم على نظام كامل بما يحمل من نظام أفكار، ومنظومة علاقات، وشبكات تحالف ومصالح: داخلية وخارجية. الثورات الحقيقية لا تقوم على شخص الحاكم، ولا على أسرة الحاكم، ولا على الحزب الحاكم. الثورة الحقيقية تقوم على منظومة حاكمة بما فيها من رموز وأفكار وشبكات ونمط انتاج ونمط علاقات. فالثورات الحقيقية لا تستبدل ظالما بظالم، ولا حاكما بحاكم. والثورات الحقيقية لا تعرف الوهن ولا أنصاف الحلول، ولا التصالح مع عناصر فاسدة. فالثورة في جوهرها قطيعة معرفية وفكرية وسياسية مع نظام قد استنفد أغراضه، وأصبح عائقا أمام انطلاق المجتمع وتكويناته وقواه الحية. فالثورات تعبير عن انفجار اجتماعي جاء ردا على انسداد أفق على كل المستويات: الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية، ومن ثم فلا إلتقاء مع من سد الأفق، ولا من سمح له بالتركز، ولا من أمّنه من مغبات سياسات جائرة.