هل المجلس العسكري لا يريد للساحة السياسية أن تهدأ وتستقر؟. المصريون وأحزابهم مشغولون الآن بالانتخابات، وبدل توفير كل الأجواء المريحة لإنجازها، ثم استكمال بقية خطوات الانتقال الديمقراطي للسلطة، إذ بالمجلس يشعل الساحة التي لا تتحمل المزيد من الاشتعال، بإثارة جدل يمكن أن يقود إلى صدام، وذلك بتأكيده أن أولى مهام المجلس الاستشاري الجديد وضع مشروعي قانون بشأن انتخابات رئاسة الجمهورية، وإجراءات تشكيل الجمعية التأسيسية التي ستقوم بإعداد دستور جديد، وفي نفس اليوم تخرج تصريحات مستفزة للواء مختار الملا عضو المجلس بأن البرلمان المقبل لن يكون ممثلا لكل الشعب المصري، وأن من سيتم اختيارهم من البرلمان لعضوية لجنة كتابة الدستور الجديد يجب أن تتم الموافقة عليهم من الحكومة والمجلس الاستشاري. وإذا كان عضو آخر بالمجلس العسكري هو اللواء ممدوح شاهين قد نفى تصريحات زميله الملا، وأكد أنه لن يتم الانتقاص من صلاحيات البرلمان في اختيار الجمعية التأسيسية، ووضع الدستور، فان هذا التضارب بين التصريحات لا يفيد المجلس، ولا يبعث على الاطمئنان والثقة في حقيقة أهدافه. فمن نصدق الآن ..الملا، أم شاهين؟، ومن يضمن أن يكون كلام شاهين، وليس الملا، هو المعتمد ويمثل الموقف الرسمي للمجلس؟، فقد تكون تصريحاته لتهدئة المحتجين خصوصا جماعة الإخوان وذراعها السياسي حزب الحرية والعدالة الذي انسحب على الفور من المجلس الاستشاري. مع ذلك ورغم النفي، إلا أن تصريحات اللواء مختار الملا تبقى خطيرة، ولا يجب إهمالها، لأنها تحط من قيمة الانتخابات والبرلمان الذي سيسفر عنها طالما أن المجلس الاستشاري المعين، وليس المنتخب، سيضع إجراءات تشكيل الجمعية التي ستعد الدستور وذلك في التفاف صريح على صلاحيات البرلمان المنتظر. واضح إذن أن المجلس العسكري يضع "فيتو"مبكر على هذا البرلمان قبل أن تنتهي انتخاباته بعد التشكيك المسبق للواء الملا بأنه لن يكون ممثلا لكل المصريين، وبالتالي - وحسب الملا - فلابد أن يكون هناك دور للحكومة والمجلس الاستشاري في تشكيل لجنة وضع الدستور. لكن كيف توصل الملا للاستنتاج بأن البرلمان لن يمثل الشعب، ومازالت هناك مرحلتان ب 360 مقعدا،علاوة على 180مقعدا منتخبا لمجلس الشورى، إلا إذا افترض أن الإسلاميين سيكتسحون، وستكون لهم الأغلبية في المجلسين. وإذا كان الافتراض صحيحا، أليس في كلام الملا وقرارات المجلس العسكري عدم احترام للإرادة الشعبية، لاختيارها لقوى بعينها، وطالما أن هذا هو التفكير فلماذا الانتخابات من الأصل؟، ولماذا لم يتم توزيع مقاعد المجلسين بنسب معينة على من يختارهم " العسكري " من قوى وأحزاب ؟، وهل السيد اللواء يعاقب الإسلاميين لأنهم يمكن أن يحققوا الأغلبية ؟، ولو كانت التيارات الليبرالية والعلمانية واليسارية هي التي ستفوز بالأغلبية، هل كان سيفرض الوصاية على البرلمان أيضا؟، الملا يرى إذن أن الناخبين لم يبلغوا سن الرشد بعد، وبالتالي فهو ينصب نفسه وصيا عليهم، والمستهجن أن يوجه رسائله من خلال صحف أجنبية، وكأنه يستهدف بها الخارج، وكأن الغرب قيم على مصر، والمدهش أنه بينما الغرب معجب بنزاهة الانتخابات، وإقبال المصريين عليها يأتي الملا ليوجه له رسالة سلبية تطعن في حسن اختيار المصريين لممثليهم في الهيئة التشريعية. من المبادئ فوق الدستورية التي وترت الأجواء طويلا، وكانت فيها النهاية السياسية للدكتور يحيى الجمل نائب رئيس الوزراء السابق، إلى وثيقة المبادئ الدستورية التي أعادت التوتر بقوة، وأطاحت أيضا بالدكتور علي السلمي، وكان هو الآخر نائب رئيس الوزراء، وتسببت في إنهائه سياسيا أيضا، إلى تجديد نفس الجدل اليوم بشأن الجمعية التأسيسية للدستور، واختيار أعضائها،والمبادئ الأساسية التي سيتضمنها، وكأن "العسكري " لا يريد الهدوء والاستقرار، وترك كل هذه الملفات تنجز بالطريقة الطبيعية الديمقراطية من خلال الأطر التشريعية المنتخبة وحسب ما نص عليه الإعلان الدستوري. هل يطمع المجلس في السلطة فيدفع الأوضاع في اتجاه الانفجار ليخلق المبررات للبقاء فترة أطول مما تعهد به؟. هل يريد إثارة التوتر بين القوى السياسية الإسلامية من جانب، والعلمانية والليبرالية واليسارية من جانب آخر، ويتركهم في عراك لتزداد الأوضاع تأزما فيخلق بذلك ذريعة للبقاء، وقد يتبع ذلك بترتيبات أخرى تقوده إلى المكوث الدائم في السلطة باعتبار أن القوى السياسية غير مؤهلة لتحمل الأمانة؟. وهل يريد المجلس وضعا مميزا في الدستور، وإذا كانت وثيقة السلمي وما تضمنته من وضع شديد التميز قد تجمدت، فإنه يحاول اليوم إحياءها من خلال المجلس الاستشاري، مع إدراكنا لأهمية التوصل لصيغة ترضي الجيش وتحفظ أسراره وموازنته بالدستور. يقول المجلس العسكري أنه يقف على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية لكنه بتصرفاته يثير الحيرة والتوجس، حيث يجعلنا مرة نشعر بأنه قريب من الإسلاميين، ومرة أخرى بأنه قريب من الليبراليين ، وتارة يبدو كما لو كان لا يريد إلا نفسه وفرض رؤيته فقط على الجميع. ويفترض أنه مع بدء انتخابات مجلس الشعب وتشكيل حكومة كمال الجنزوري أن يتراجع " العسكري "للخلف في الإدارة السياسية والتشريعية والتنفيذية للدولة ويلملم أوراقه ليرحل إلى ثكناته لأنه أثبت عدم قدرته على الإدارة الناجزة خلال الأشهر العشرة الماضية وإلا ما كانت ساءت الأحوال ، وما كان قد اضطر للتنازل عن صلاحيات رئيس الجمهورية للجنزوري . أدرك أن المجلس العسكري يستند إلى دعم شعبي، وأنا ممن يدعمون هذا المجلس أيضا، لكن بعض تصرفاته، وتصريحات قادته تجعلنا نقلق منه، ومن حقيقة نواياه، لكن عليه أن يعلم أن إرادة الشعب تتجسد الآن في النواب الذين انتخبهم وصاروا يتحدثون باسمه ويفاوضون نيابة عنه، أي أن الشرعية باتت تنتقل منه إلى البرلمان الذي يتشكل الآن، وبالتالي فالصلاحيات التي منحها له الإعلان الدستوري تسحب منه بشكل قانوني ودستوري، وواجب عليه إذن أن يرعى التحول الديمقراطي ونقل السلطة لمن ينتخبهم الشعب بهدوء وحكمة لينجز تلك المسئولية التاريخية التي ستسجل له.