تعملُ م.س. معلِّمة أطفال في إحدى المدارس الخاصَّة، وهي تسكن في منطقة بعيدة عن هذه المدرسة، ولديها طفلة صغيرة.. هذه السيدة تركب ثلاث مواصلات في الصباح الباكر حتى تذهب لبيت أمِّها، وتدع طفلتها الصغيرة هناك، ثم تركب وسيلة مواصلات حتى تذهب إلى المدرسة التي تقضي فيها حوالي سبع ساعات، ثم تشتري شيئًا من الشَّارع لتأكله قبل أن تلحق بعدد من الدُّروس الخصوصية - التي تدرّ عليها الدَّخل الأكبر - وتنتقلُ هذه السيدة من بيت لبيت، حتى تعود بعد نحوٍ من ستّ ساعات أخرى لبيت أمها - التي تعتمد عليها اعتمادًا كليًّا في تغذية الصَّغيرة ونظافتها وكلّ شيء - ثم تأخذ الصغيرة في وقت متأخر جدًّا، وتركب ثلاث مواصلات أخرى حتَّى تصل لبيتها فتنام من الإعياء حتى يوقظها زوجها في منتصف الليل وقت عودته، فتستيقظ لمدة ساعتين - وهذا دليلها الأكبر على حفاظها على حقّ الزَّوجِ - ثم تنام حوالي ثلاث ساعات أخرى قبل أن تغادر البيت مع الصغيرة، وتترك زوجها نائمًا دون أن تقلقه - فجميع ما يحتاجه الزَّوج موجود في الثَّلاجة –
وذات يوم أحضرتْ هذه السيدة لابنتها الصغيرة ثوبًا جديدًا؛ كي تسعدها وتعوضها غيابها، وبعد أن ارتدته الطِّفلة وجدت أمّها تستعدّ للخروج، فتمسَّكتْ بها، فانحنت الأمّ وقبَّلتْها، وقالت لها: سأخرج للعمل كي أشتري لكِ ثوبًا جميلاً جديدًا كهذا الثَّوب، ثم تركتها دون أن تنتظر منها كلمة، فما كان من الطِّفلة إلاَّ أن حاولت شد الثَّوب وخلعه أو تمزيقه، وهي تقول لجدتِها بغضب وحزن: أريد أمِّي، لا أريد هذا الثوب!
كان هذا نموذجًا لكثير من الأمهات اللائي يعتبرن ضيفات شرف في بيوتهن التي ما هي إلا مجرد فنادق يأتين إليها لينصرفن، ويخلدن فيها إلى النوم آخر الليل، واللائي شغلتهن أعمالهن وأموالهن وطموحاتهن الزائفة عن أداء رسالتهن السامية الأولى في هذه الحياة، وهي تربية ورعاية الأبناء والاهتمام بالزوج وتلبية مطالبه ورغباته، والتواجد في البيت لتحقيق الاستقرار والأمان والسلام النفسي والعاطفي لجميع أفراد الأسرة..
مما لا ريب فيه أن الإسلام لم يمنع المرأة من ممارسة عمل يدرُّ عليها دخلاً خاصًّا بها؛ لكنه وضع ضوابط لذلك، وعلى رأسها : ألاَّ يخلّ هذا العمل بواجبات المرأة داخل نطاق الأسرة، فجميع العلماء ممن يبيحون عمل المرأة يقولون بشرط ألاَّ يؤثِّر هذا العمل على بيتها وأطفالها، ورغم ذلك نرى نساءً يأخذن الجزء الأول وهو إباحة العمل، ثُمَّ ينسين تمامًا الشَّرط المرتبط به!.. مما يؤدي إلى تقصيرهن في أداء واجباتهن، وحرمان أبنائهن من السكن والاهتمام والدفء الأسري ومن ثم ضياعهم ووقوعهم فريسة سهلة في قبضة رفقاء السوء وغيرهم، ما يعرضهم إلى أزمات وأخطار لا يعلم مداها سوى الخالق..
؟فما معنى أن تعمل الأم لمدة عشر ساعات وأكثر خارج البيت، وتفرغ كل طاقتها وجهدها في عملها وتعود منهكة غير قادرة على القيام بشؤون بيتها..
كيف تتركَ الكثير من أمهات هذا الزمان أطفالهنَّ في سنِّ (ثلاثة شهور) في دارِ الحضانة؛ لأنَّهن لا يردن أن يأخذن إجازةً بدونِ مرتب، ويخشين على الترقية ومستقبلهن الوظيفي؟!..
ماذا يجدي جمع وادخار أموال لا يتم استغلالها في إدخال السعادة على أفراد الأسرة وذوي الحاجة؟!.. ماذا يجدي شراء بيت فاخر أنيق لا تراه هذه الأمهات إلا ساعات النوم؟!.. ما فائدة إلحاق الأبناء بمدارس راقية باهظة التكاليف، وإحضار أفضل الثياب وأغلى الألعاب لهم، وهم المحرومون من الشعور بالأمان والحنان لغياب أمهاتهم عنهم لساعات طوال يوميا!..
تجدر الإشارة إلى أن الرَّجل والمرأة كليهما مسؤولان عن سلامة البيت واستقراره، ولكنَّ المرأة هي روح البيتِ، ولو أنَّ الظروف المادية القاسية دفعت الرجلِ إلى البعد عن بيته للعمل لتلبية حاجيات أفراد أسرته وتوفير حياة كريمة لهم، - مع ما في ذلك من خطر - فإنَّ المصيبة الكبرى في غياب الأمّ أيضًا عن بيتها، واستبدالها الذي هو أدنى بالذي هو خير..
لا بدَّ لنا من وقفة جادة لمراجعة نمط حياتنا، وليكن هادينا كتاب الله، وسنة رسوله، إذا كنا نريد الفلاح والسعادة في الدارين.