بلا شك أن تاريخ مصر الحديث سيظل يفخر طويلا ، بأن الشباب الغض هو من أخرج الثورة من رحم الثبات ، وفجر الغضب من قلب الصبر ، وحمل رايات الرفض ضد الظلم والقمع ، هذا بالطبع إن كتب للثورة النجاحات المرجوة ، وحققت الطموحات الهائلة المعلقة عليها ، أما لو سارت بنا مقادير الحياة فى مصر نقيض ذلك ، سيلعن الجميع الثورة ويوم خرج الشباب إلى التحرير ، وهو مالا يتمناه أحد بالطبع باستثناء فلول النظام . وليس التشاؤم حول مصير الثورة مقصدى ، لان التشاؤم ليس من طبعى ، بل مقصدى نجاح الثورة ، فرغم اننا لا نزال فى بدايات الطريق ، والحلم الجميل لا يزال أمامه آلاف الخطوات للتحقيق ، إلا أن نبرة الفخر والتعالى بتنا لا نغفلها على السنة كل شبابنا بأنهم صناع الثورة وقادتها ، سواء من خرجوا بالفعل فى التحرير ، أو وقفوا فى الشوارع حاملين العصى والهراوات فى اللجان الشعبية للتصدى للبلطجية ، أو حتى من قبعوا فى منازلهم خلف شاشات التلفاز يشاهدون الثورة عبر الأثير ، وأنا لا أنكر على أى شاب شعوره بالفخر أو الاعتزاز لأنهم كان عضوًا فعالا أو مشاهد للثورة أو شاهد عليها ، ولكن ما أنكره ألا يسمع هؤلاء الشباب صوتا غير أصواتهم ، متجاهلين صوت الحكمة من الشيوخ أو ممن يكبرهم سنا ، وأن يعتبروا أنفسهم أصحاب الحكمة الوحيدة فى هذا العصر ، لأنهم أصحاب الثورة ، فلا صوت يعلو على صوتهم ، ولا رأى صواب إلا رأيهم ، ولا تجربة قديمة أو سابقة يعتدون بخبرتها ، ولم تعد لغة التعالى والأنا مرصودة فقط عبر الفضائيات التى باتت تشهد زخما رهيبا فى استضافة شباب الثورة والنشطاء السياسيين وغيرهم من شراذم الحركات الثورية والتحررية والغضبية .. إلخ من تلك الأسماء التى تفتقت عنها أذهان الشباب بعد الثورة ، بل باتت لغة الأنا والتعالى تضج بها البيوت المصرية أيضًا داخل الأسر ، فصار الأبناء لا يستمعون للآباء ولا لآراءهم أو نصائحهم ، وكأن عدم الطاعة أو الاستماع لخبرات الأب أو الأم والاستفادة صرعة جديدة ومفروض علينا قبولها فى عهد ما بعد الثورة ، وإذا غضب الأب أو ثار ، كان رد الابن " احنا فجرنا الثورة وغيرنا التاريخ " ، أى بمعنى آخر " أنا حر أعمل اللى أنا عاوزه " . وهكذا اتسعت فجوة كانت موجودة أصلا بين الأجيال قبل الثورة ، وأصبحت حكمة الشيوخ فى واد ، وحماس الشباب واندفاعهم فى واد آخر ، ولا يسمع أى منهما الآخر ، وزاد من الفجوة تغيير المفردات اللغوية ، واستخدام الشباب لمصطلحات وكلمات جديدة فى عرفهم يتبادلونها عبر الشات ومواقع الاتصال الاجتماعى ، ولا يفهمها الشيوخ ، كلمات دخيلة لا هى عربية ولا إفرنجية ولا تمت بأى صلة للغات الحية ، بل تركيبة عجيبة ، تتشابه كثيرا مع التركيبة الشباببية التى يحاولون الآن فرضها على من يكبرونهم سنًا وخبرة وحكمه . [email protected]