في الحلقات السابقة أشرنا إلى أنه في شهر شعبان من سنة 1378ه، الموافق 1958م تقدم الدكتور لبيب السعيد بمذكرة إلى الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم التي كان يرأسها يوضح فيها اقتراحه بشأن تسجيل القرآن صوتيًا بكل رواياته المتواترة والمشهورة وغير الشاذة. اختمرت الفكرة ووضع الدكتور السعيد معالمها ولاقت قبولاً واستحسانًا، ورحب بها الأزهر الشريف، وأبدى الإمام الأكبر محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر آنئذ ارتياحه ورضاه عنها.
وفي البداية أطلق الدكتور لبيب السعيد على مشروع تسجيل القرآن الكريم اسم "المصحف المسموع"، ولكن الشيخ شلتوت اعترض على اسم المشروع، وقال: إن العامة تجعل (المسموع) مرادفًا ل(المشهور)، ولذلك يرى تغيير الاسم، ففكر الدكتور لبيب السعيد في تغيير الاسم، وورد على خاطره صفات مثل: الْمرتل، الصائت، الناطق، فاختار الْمرتل.
وأراد السعيد أن يأنس بقبول الرأي العام حول التلاوة المرسلة التي سيسجل بها الجمع الصوتي حيث لم تكن مشهورة وقتها؛ فطلب من الشيخ محمود خليل الحصري أن يقرأ بها في حفل أقيم بقاعة المحاضرات الكبرى بالأزهر، فلاقت هذه التلاوة قبولاً عند الحاضرين.
واحتاج هذا المشروع العظيم إلى تمويل عالٍ، ولمّا لم يكن في طاقة جمعية المحافظة على القرآن الكريم الإيفاء بالتمويل، اتفق السعيد مع الإذاعة المصرية على التسجيل في أستديوهاتها، مقابل أن يكون لها الحق في أن تذيع من محطاتها ما يتم تسجيله لديها.
وبعد هذا الاتفاق دعا لبيب السعيد ثلاثة من أشهر القراء والعلماء للبدء بالتسجيل، وهم: الشيخ محمود خليل الحصري، واتفق معه أن يسجل القرآن برواية حفص عن عاصم، والشيخ مصطفى الملواني، وكان حاذقا في القراءات، واتفق على أن يسجل رواية خلف عن حمزة، والشيخ عبد الفتاح القاضي، وكان يشغل رئيس لجنة مراجعة المصاحف بالأزهر الشريف، واتفق على أن يسجل قراءة أبي جعفر برواية ابن وردان، وهي من القراءات العشر، وفي الوقت نفسه يشرف على التسجيل.
نجح لبيب السعيد في التسجيل، ورأى أن يمضي الشيخ محمود الحصري في تسجيل رواية حفص، وفق الشروط والضوابط التي وضعتها اللجنة المشرفة على التسجيل، وكانت تضم أساتذة فن التجويد والقراءات في مصر، يتقدمهم الشيخ عامر عثمان.
ولم يكن التسجيل هينا، فمع امتياز الشيخ الحصري في القراءة، فإن اللجنة كانت تستوقفه كثيرا ليعيد التسجيل على النحو النموذجي المطلوب.
وبعد الانتهاء من التسجيل بدأت مرحلة طبع أسطوانات المصحف المرتل، وانتهت في ( 10 صفر 1381ه الوافق 23 يوليو 1961م) حيث بدأ في توزيع المصحف المرتل للمرة الأولى في تاريخ الإسلام.
وأذيع المصحف المرتل من الإذاعة المصرية بالقاهرة للمرة الأولى في صباح (الاثنين 8 من ربيع الآخر 1381ه الموافق 18 سبتمبر 1961م) إيذانا بعهد جديد للمصحف الشريف، وإعلانا عن نجاح الخطوة الأولى في مشروع "الجمع الصوتي" للقرآن الكريم.