كل دول العالم تسعى لتحسين التعليم. و من ناحية أخرى فأغلب دول العالم غير راضية عن مستوى التعليم فيها، و تسعى للرفع منه لأن التعليم هو ما يحدد مستقبل الأمم و الشعوب. و التعليم الجيد يعطي اقتصاد جيد، و دولة متقدمة قوية ، بينما العكس صحيح. و هناك ثلاثة أنواع من الاقتصاد ترتبط بثلاثة أنواع من التعليم. هناك الاقتصاد العشوائي و هو الاقتصاد البدائي ، فمثلا: يذهب بائع الخضروات إلى السوق ليشتري بعض الخبز، فيدفع خمسة جنيهات للخباز مقابل بعض الخبز. فيأخذ الخباز هذه الجنيهات الخمسة ليشتري بها بعض اللحوم من الجزار، و يأخذ الجزار الجنيهات الخمسة ليشتري بها بعض الخضروات من بائع الخضروات. فتكون المحصلة النهائية هي أن قامت الخمسة جنيهات برحلة و دورة كاملة عادت فيها إلى صاحبها دون جديد. و كان من الممكن أن نستغني عنها مقابل اتفاق تبادل بسيط و بدائي للسلع و الخدمات بين الخباز و الجزار و بائع الخضروات!. و هذا النوع من الاقتصاد هو الموجود في الدول المتخلفة بما فيها مصر. حيث يكون اقتصادا محليا يعتمد على تبادل الخدمات و السلع بين الناس دون إنتاج قوي يرفع الاقتصاد إلى مستوى عالمي. ثانيا هناك اقتصاد الإنتاج الصناعي و هو الاقتصاد الذي نجده في دول مثل أوروبا منذ قرنين أو ثلاثة من الزمان و الموجود حاليا بصورة واضحة في الصين و الهند. حيث يتم تعليم الآلاف من البشر معلومات محددة (كتاب الوزارة أو منهج المدرسة أو كتاب القسم) و يحفظ كل هؤلاء البشر نفس المعلومات و تتشكل عقولهم بنفس الطريقة و يتدربون على نفس المهارات. ثم يخرج هؤلاء البشر في صورة جيش كبير من الجنود أو العمال في صورة نسخ كثيرة متشابهة تطيع الأوامر وتنفذ ما حفظته ، فتنطلق في سوق العمل فيذهبون إلى المصنع ليقفوا في طابور الإنتاج حيث يقومون بحركات مكررة متشابهة على خط الإنتاج لتركيب صامولة سيارة أو صناعة صندوق ليخرج منتج في النهاية من المصنع و يتم تصديره إلى العالم. و في هذا النظام التعليمي يكون الإنسان شبيه بالآلات و الماكينات يتم التحكم في مجموعة كبيرة من البشر و هؤلاء البشر منهم نسخ مكررة كثيرة و من السهل الاستغناء عن نسخة و استبدالها بنسخة أخرى لتوفر النسخ الكثيرة. ثالثا هناك اقتصاد الإبداع و هو ما يتم اليوم في الدول المتقدمة مثل غرب أوروبا و أمريكا الشمالية و سنغافورة و اليابان. و الإبداع هو القدرة على الربط بين أمور مختلفة ليظهر من هذا الرابط شيء جديد لم يصل إليه أحد من قبل. فقبل اختراع المصباح الكهربائي كانت البشرية تعرف الكهرباء والغاز والزجاج و كل مكونات المصباح الكهربائي. لكن من أبدع المصباح الكهربائي هو من استطاع أن يرى الطريقة للربط بين خواص غاز معين مع خواص الكهرباء مع خواص معادن محددة لينتج لنا أو يبدع لنا المصباح الكهربائي عن طريق المحاولات المتكررة لتحقيق هذا الرابط الذي لم يراه أحد من قبله. و هذه القدرة على الربط بين المعلومات أو التكامل المعرفي يعتمد على التميز الشخصي و أن لكل شخص مهارات متميزة. فمثلا هناك طفل في المدرسة يدرس منهج بسيط من الأساسيات في العلوم و اللغات و التاريخ و الرياضيات، لكن تلاحظ المدرسة أنه متميز في الرسم ، فيتم تخصيص عدد ساعات دراسة زيادة لهذا الطفل في الرسم ، و طفل آخر في الرياضيات ، و طفل ثالث في التاريخ.. إلخ. و بالتالي فيخرج في النهاية منتج متميز غير مكرر. يخرج طبيب يتقن الرياضيات ، و مهندس يتقن الشعر، و صيدلي يتقن الرسم. و هذا التميز أو التفرد هو المطلوب لاقتصاد الإبداع حيث أن هذا الشخص الذي يملك مهارات مختلفة عن الآخرين يكون قادرا على الإبداع و الابتكار. فيكون هناك معمل صغير يعمل فيه بضعة أشخاص يخترع جهاز فيحقق ببراءة الاختراع من المكاسب و الشهرة أضعاف ما يحققه مصنع كبير يعمل فيه آلاف العمال ليل نهار. و بالطبع كلنا يعلم اليوم أن اقتصاد الإبداع و الاختراع هو الأقوى و هو ما يحقق مكاسب حقيقة و ارتفاع بمستوى الشعوب و الأمم. و الحقيقة أن منظومة التعليم الإبداعي قد تكون صعبة في المدارس لو كان الاعتماد على الحكومات و إدارات المدارس. لذلك يمكن عمل هذه المنظومة بالطريقة الأهلية. فيتم نشر الوعي بين الأسر و الشباب فيكون هناك منهاج الوزارة في المدرسة لكن لا يكتفي به الأب و الأم لأبنائهم و لا يكتفي الشاب بما يحفظه في المدرسة. لكن يستكشف مهاراته و ميله و ينميها فمثلا لو هناك شاب يدرس الطب و يحب الرسم فلا مانع أن يبحث عن دورات تدريبية و مؤتمرات عن الرسم و الرسامين لتطوير مهاراته. لو الأب يلحظ أن ابنه متميز في الرياضيات أو علوم الأحياء فعليه أن يعطيه دورات في هذا المجال خارج إطار التعليم الإلزامي و مناهج الوزارة. و تنمية المهارات تكون بالقراءة و الاطلاع و بحضور الدورات و المؤتمرات و تكون أيضًا بالتواصل مع المهتمين بنفس المجال عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو المجالس و الجمعيات. فلو لدينا شاب يهوى الشعر بجوار تخصصه في علوم الفيزياء فلا مانع أن ينضم إلى مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي لها نفس الاهتمام أو جمعيات أهلية أو روابط أدبية. و لتكوين شخص مبدع من خلال المنظومة التعليمية يجب أن يتم تنمية الملكات و القدرات الخاصة لكل شخص مع تنمية القدرة على البحث و المعرفة و السؤال لماذا و كيف. و ليس فقط حشو الرأس بالمزيد من المعلومات. فالتعليم يجب أن يكون هدفه صناعة عقل مستكشف و ناقد و باحث و ليس مجرد صناعة عقل مستهلك و مقلد ينتظر بعض المعلومات ليحفظها أو ينتظر بعض التعليمات عن كيف يستعمل جهاز الكمبيوتر أو كيف يقود السيارة ليكون مستخدم جيد فقط للكمبيوتر و السيارة و لا يفهم ما بداخلها أو لا يستطيع صناعة أو إبداع شيء مماثل. اللغات وأهميتها: و أثبتت الأبحاث أن تعليم اللغات ليس ذو أهمية قصوى في تطوير العقل الإبداعي إذا ما قورن بتعلم الرياضيات و تعلم لغة واحدة بصورة عميقة (و يفضل أن تكون اللغة الأم) أهم بكثير من تعلم لغات كثيرة بصورة سطحية. فاليوم لم تعد الترجمة مشكلة أو عائق في الحصول على اي معلومات بلغة أجنبية ، و من ناحية أخرى فنحن نعتقد أن فمن الأفضل أن يتعلم الإنسان لغة أجنبية بالإضافة إلى لغته الأم ، يتعلمها ليس من أجل اللغة في حد ذاتها و لكن للإطلاع على الجديد في المجال العلمي. و بالتالي فالاهتمام السطحي بتعلم الإنجليزية على حساب اللغة الأم (العربية) يؤدي إلى شخصيات سطحية لا تتقن هذا و لا ذاك و تعيش في غربة ليس فقط عن مجتمعاتها بل و عن الدول الإنجليزية التي تتملقها أيضًا. يجب الاهتمام بتعلم العربية و بعمق شديد بالإضافة إلى بعض التعلم للغة أجنبية أخرى و ليست بالضرورة الإنجليزية أو لغة أوروبية. و أهمية تعلم اللغة الأم و الفصحى أنه يعطي عمقا في التفكير حسب نظرية برنشتاين، وذلك لأن كل لفظ يكون له معنى واضح محدد في عقل الإنسان و يكون الكلام المحدد وسيلة للتواصل الواضح مع الآخرين و هذا يعتبر من أساسيات التفكير العلمي، حيث إن التواصل الواضح و معاني المصطلحات المحددة من أهم قواعد العلم و العلوم. و البعض يعتقد أن علينا إلغاء العربية في تعلم العلوم لأننا في مرحلة تخلف و لا ننتج العلم. لكن علينا أن نتذكر أن العرب لم يتطوروا إلا بعد أن ترجموا العلوم إلى لغتهم العربية ثم بدأ الإبداع ( و ليس العكس) ، لكن لم يتنازلوا عن لغتهم و تحولوا إلى الكلام باللاتينية مثلا في الحضارة الإسلامية. و من ناحية أخرى فلو افترضنا أن لغة العلم هي الإنجليزية اليوم ( و التي كانت لغة غوغائية غير مكتوبة حتى القرن السادس عشر ) فما تفسير تطور العلوم في إسرائيل التي تدرس بالعبري و اليابان بالياباني و الصين بالصيني و تركيا بالتركي.. إلخ. إن العقل يكون قادرًا على الإبداع بلغته الأم وليس اللغة الدخيلة و لكن من يدرس بلغة غريبة يضيع جزء كبير من مجهوده العقلي في ترجمة المصطلحات و المعاني في عقله فيقف عن ظواهر النصوص و لا يستغرق في عمقها و بالتالي فلا يبدع فيها. فنجد الطالب يدرس مثلا بالإنجليزية لكن يفكر بالعربية و المدرس يفكر بالعربية و المجتمع يفكر بالعربية لكن في التواصل تدخل بعض الألفاظ الإنجليزية المبعثرة و الغير مترابطة مع بعض الألفاظ العامية و الفصحى مما يعطي فشل كامل في التواصل. و اللغة الأم هي لغة المجتمع و هي العربية الفصحى ، بينما العامية هي لغة العوام في الشارع و هي لغة غير ثابتة تتغير مع الوقت و مصطلحاتها غير دقيقة وكثرة استعمالها في التعليم يؤدي إلى السطحية و عدم الوضوح. يجب أن نشجع الدراسة بالعربية مع رفع قدرات الترجمة و التي أصبحت متوفرة بصورة فورية في كل مكان و بالعديد من الوسائل التكنولوجية مما يسهل الحصول على التراجم العلمية بسهولة ، العائق في ذلك ليس الإمكانات و لكن الرغبة الحقيقية و القرار. و هذا ينطبق على كل مراحل التعليم من ناحية أخرى فالتعليم يجب أن يتوافق مع هوية المجتمع و ينميها و يقوي ترابطها من خلال اللغة العربية و دراسة التاريخ لأن هذا هو ما يصنع هوية حقيقة لها بعد إقليمي قوي فقوة العربية تربط مصر بالشرق الأوسط و قوة الحضارة الإسلامية تربط مصل بأغلب دول أفريقيا و آسيا.