لازلنا مع كليلة ودمنة... كان بأرض من أراضي الله ابن آوى ليس كغيره من أبناء جنسه، اشتهر بالنسك والعفاف. عرف بأمره ملك السباع بالناحية، فأرسل إليه ودعاه إلى صحبته لأنه بحاجة إلى الأعوان المخلصين ذوي العفة والنزاهة، ووعده بأنه سيكون لديه مكين آمن. قال ابن آوى للملك... من حق الملوك اختيار من يرونه عونا لهم ولكن من غير أن يكرهوا أحدا على ذلك، وأنا كاره، وأنت – أيها الملك- لديك من السباع من هم أفضل مني. ولكن الملك أصر، فقال ابن آوى... إن من يستطيع العمل وصحبة السلطان رجلان لست أنا بواحد منهما... إما متزلف متصانع ينال حاجته بتزلفه ومصانعته، وإما رجل ساذج مغفل لا يحسده أحد. أما من أراد صحبة السلطان بالصدق والنصيحة فقلما تستقيم له الصحبة لأنه سيؤلف عليه عدو السلطان وصديقه بالعداوة والحسد، فالصديق سينافس السلطان في منزلته وأما عدوه فسيضغن عليه. قال السلطان... إني كافيك قال ابن آوى... إني راض بمعيشتي، وقد علمت أن صاحب السلطان يصل إليه في ساعة واحدة ما لا يصل إلى غيره طول دهره. قال الملك... أنفض هذه المخاوف عن نفسك. بعد حوار ممض قبل ابن آوى ولكنه اشترط عليك ألا تتعجل علي قبل أن تتثبت إذا اغتابني أحد وذكر لك عني ما تكره... فوافق الملك. أصبح ابن آوى مستشار الملك، فثقل ذلك على الحساد فأتمروا ليغروا به الملك ويهلكوه. قام الحساد بسرقة وجبة لحم- طعام الملك- وخبئوها في بيت ابن آوى. طلب الأسد طعامه فلم يجده، وكان ابن آوى غائبا، فتطوع أحدهم وأخبر الملك –وهو يتصنع الأسف- أن ابن آوى ذهب باللحم إلى منزله. وقع هذا الخبر في نفس الملك وأخذ الحساد يفيضون في المكر حتى أوغروا صدره. أرسل الملك من يفتش منزل ابن آوى ليجد اللحم فيه. أمر الملك بقتل ابن آوى ولكن أم الأسد ما أن بلغها هذا الأمر حتى دخلت على ابنها متسائلة عن الذنب الذي من أجله سيقتل ابن آوى... فأخبرها بما حدث قالت أم الملك-لا تتعجل يا بني- فليس أحوج إلى التؤدة والتأني من الملوك وغير ذلك مجلبة لخطر عظيم، واعلم يا بني أن الملوك إذا استمعوا إلى غيرهم مما يجب مباشرته بنفوسهم دعوا الفساد إلى نفوسهم، وأن أهل السوء على كثرتهم لا يطيقون واحدا من أهل الخير بينهم، فهو كالنور الفاضح الكاشف ولابد من إطفائه ليرتعوا هم في الظلام وهو يعرفون سبلهم فيه. افحص يا بني أمر ابن آوى، فهو كما عرفته يؤثر منفعتك على هواه. بعد التحري والفحص وتقليب الأمر على كل وجوهه اقتنع ملك السباع ببراءة ابن آوى. قالت الأم.. أما إذ عرفت براءة ابن آوى وجرأة أصحابك عليه فلا ترضين بذلك منهم فتعودهم الاحتمال منك، ولا تغترن بسلطانك عليهم فيدعوك ذلك إلى التهاون معهم. ثم استطردت الأم... أعد لابن آوى منزلته. فدعاه الملك واعتذر له قائلا إن الذي حدث زاد ثقتي بك. قال ابن آوى ردا على ذلك ... إنك-أيها الملك- لم تتفضل علي بالثقة وحسن الظن، فما كان من سرعة استجابتك لأهل الكذب أفقدني الثقة بك، ما كان لك ولا ينبغي أن تثق بهذه الأصناف، فهم أعداؤك وأعدائي وقد يسرت لهم السبيل إلى الاستخفاف بي والجرأة على. قال الأسد... ما أغلظ كلامك..فرد ابن آوى إني قلت ما قلت لأن في القصاص تطهير للنفس من الحقد، وأنا أريد أن أخرج ما في نفسي ليسلم لك صدري. واستطرد ابن آوى... قد يقال لك أيها الملك قد دخلت قلب ابن آوى عليك بضغينة بسبب ما أدخلت عليه من التهمة، وهكذا يجد أهل المكر مدخلا فيما بيني وبينك. قال الأسد.. إنك لست ممن يصدق عليه القبيح، وإنا منزلوك عندنا منزلة الكرام، والكريم تنسيه الخلة الواحدة من الإحسان ألف خلة من الإساءة. انتهت.