مع بدايات النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم اعترف كُتّاب غربيون كثيرون بأن نظرة الإسلام لذوي الاحتياجات الخاصة (المعوَّقين) سبقت وفاقت جميع التشريعات الغربية والشرقية الحديثة التي زعمت أنها تسعى لتأمين حقوق تلك الفئة من فئات المجتمع.وسعت إلى تأطير تلك الحقوق وبلورتها في مواثيق واتفاقيات دولية. ويدفعنا هذا إلى محاولة البحث عما تضمنته الشريعة الغراء من حقوق لذوي الحاجات الخاصة ممثلة في الكتاب والسنة اللذين يغطيان كل جوانب حياة الإنسان، من حيث هو إنسان، تشريعاً وتأديباً. والمتدبر لآي الذكر الحكيم، والأحاديث النبوية الشريفة يجد أنهما اختصا المعوَّقين بعدد من التشريعات التي تكفل لهم كثيراً من حقوقهم. وبدايةً لم يجعل الإسلام الصورة البدنية معياراً للتفاضل بين أفراد المجتمع المسلم، بل نصّت آيات القرآن الكريم على أن التقوى هي معيار التفاوت بين أفراد الإنسانية جمعاء. كما أن حرص الشريعة الإسلامية على التسوية بين المسلمين في الحقوق والواجبات واضحٌ في الكثير الشائع من نصُوصِ الكتاب والسنّة، فالمسلمون "يسعى بذمتهم أدناهم"، ومثلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسَّهَرِ، والحمّى. وفي هذا الإطار، تأتي رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يُعبَّر عنهم في نصوص الشريعة بألفاظ عامة مثل: 1- الضعفاء. 2- المرضى. 3- أولي الضرر. 4- أصحاب الأعذار. إشارة إلى ما يُعانُونه من ظروف خاصة، كما قد يُشار إليهم باسم العاهة التي ابتلى بها كل منهم مثل (الأعمى – الأعرج – الأصم – السفيه "التي تدل على المرض العقلي") . ولكن القرآن الكريم حين يستعمل أسماء العاهات يشير بوضوح إلى أن استعمال هذا اللفظ أو ذاك إنما هو للتعريف فقط، ولا يقصد به الإهانة أو الازدراء، إذ مفهوم العمى الحقيقي أو الصمم الحقيقي في التعبير القرآني إنما ينصبّ على عمى القلوب التي في الصدور، أو الصمم عن الاستماع إلى الحق. وعلى ذلك فلا حرج من أن نستعمل الاسم العربي لهذه الفئة وهو (المعوقون) بديلاً عن التعبير الإنجليزي المعرب (ذوو الحاجات الخاصة)؛ لأن في اللفظ العربية استدعاء لروح التعاون والتكافل الاجتماعي، وحفزاً لأصحاب الهمم العالية من الأسوياء لمدّ يد العون والعطف والرعاية لإخوانهم أصحاب الابتلاء. أما اللفظ الإفرنجي ففيه ما يُشعر بالتمييز الاجتماعي، فضلاً عما فيه من اتساع لا يقف عند حدود أصحاب البلاء، بل قد يضم إليهم كثيراً من الأسوياء ممن لهم احتياجات خاصة. الأصول الإسلامية العامة لرعاية المعوقين: إن نظرة الإسلام إلى الأطفال المعوقين جزء من نظرته المتكاملة للإنسان المكرّم المستخلف في الأرض، وعلى هذا الأساس فقد كفلت الشريعة الإسلامية للمعوقين حقوقاً تنطلق من الأصول العامة لرعاية هذه الفئة. وهذه الأصول يمكن إجمالها فيما يلي: (1) حماية الطفل المعوق من السخرية والازدراء: والمستند الشرعي لهذا الأصل هو قوله تعالى: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيرًا مِنْهُمْ [الحجرات/ 11]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم [(بحسب امرئ من الشرّ أن يحقّر أخاه المسلم). (2) النظرة إلى الإعاقة على أنها ابتلاء من الله تعالى: والسند الشرعي لهذا الأصل هو قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الْصَابِرينَ} [البقرة/ 55]، وقول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما يصيب المؤمن من وصَبٍ ولا نصبٍ ولا هَمٍّ ولا حُزمٍ ولا غمٍّ حتى الشوكة يشاكَهَا إلا كفَّر الله بها من خطاياه) [رواه البخاري في صحيحه، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض – حديث 5640، 5641 – ومسلم في صحيحه،كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه – حديث 1991-2571]. وقوله صلى الله عليه وسلم: (المصائب حطة تحط الخطايا عن صاحبها، كما تحطّ الشجرة القائمة ورقها) [البخاري – كتاب المرضى، باب أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل، حديث 5648]. (3) المساواة بين البشر تشمل المعوّقين: إن الإسلام لم يُقِم وزناً للفروق العرقية، أو الجسدية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية بين الناس، والمستند الشرعي لهذا الأصل هو قوله تعالى: (يآ أَيُّهَا النَّاسُ إَنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات/ 13]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...} [الأنعام/ 132]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وألوانكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) [رواه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة – حديث 1987]، وقوله: (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) [مسند أحمد، ج2، 285]. (4) مسؤولية الدولة عن رعاية المعوقين مؤكدة إسلامياً: للمعوقين على الدولة حقوق عامة، وحقوق خاصة. أما الحقوق الخاصة فسوف نتناولها بعد قليل، أما الحقوق العامة فهي تترتب لهم بوصفهم أفراداً في المجتمع الذي تقع مسؤولية تأمين حاجاته جميعاً على عاتق الحاكم، والمستند الشرعي لهذا الحق هو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته) [متفق عليه]، وقوله: (اللهم من ولِي من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم فاشقُق عليه، ومن ولِي من أمر أمتي شيئاَ فرفَقَ بهم، فارفُق به) [رواه مسلم في صحيحه، ج12 : 212]. في إطار هذه الأصول الإسلامية العامة، يأتي تناول الشريعة الإسلامية لما للمعوقين من حقوق على الدولة والمجتمع سنفصلها في السطور القادمة: [email protected]