زمان في السبعينات، كان في مصر مشروع أمريكي باسم مشروع "مصر- كاليفورنيا"... انتهى إلى نتيجة أننا نفقد حوالي خمسين في المئة من انتاجنا الزراعي في الطريق من الحقل إلى الفم بسبب السفه والعته. وبالطبع قبل أن نشرع في التنمية علينا أن نحافظ أولا على انتاجنا من الضياع، فالتنمية لن تحقق إلا عشرة في المئة، أما المحافظة على الإنتاج ستنقذ خمسين في المئة منه. لا هذا ولا ذاك، الأيسر استيراد ما ينقصنا من الخارج. تذكرت ذلك المشروع وأنا أقرأ ما صرح به وزير المالية حازم (ليته كذلك) الببلاوي من أن الوضع المالي في منتهى السوء، ولدينا أزمة سيولة، وإحدى سبل التغلب على هذا الوضع الاقتراض من المؤسسات الدولية (حوالي عشرين مليار جنيه). الوزير اختار أسوأ السبل، اختار السير على نهج التسول والشحاذة. مصر غنية بمواردها... الظاهرة منها والباطنة... لدينا من الظاهرة قناة السويس، ولدينا الغاز الذي نصدره، ولدينا السياحة. ولكن لدينا أيضا- للأسف- السفه والعته. الوزير لم يفكر في المحافظة على ما لدينا قبل مد الأيدي إلى الخارج. لدينا كثرة كاثرة من كبار الموظفين، يتقاضى الواحد منهم أكثر من مليون جنيه شهريا، ومكاتب سكرتارية يتقاضى القائمون (القائمات) عليها عشرات الألوف. لدينا هيئات ومؤسسات وبنوك تدلل عامليها بمرتبات فاخرة، فضلا عن مكافآت نهاية الخدمة بمئات الألوف. ألا من سبيل لإخضاع هؤلاء وهؤلاء للضرائب التصاعدية، وللحد الأقصى للأجور. لدينا سفارات وقنصليات ومكاتب متنوعة في الخارج تعج بالموظفين والسعاة، وتكلف الدولة الملايين شهريا بالعملة الصعبة دون عمل مؤثر، بخلاف قيمة المباني التي يشغلونها وما تشتمل عليه من أجهزة وأثاث، وما تستهلكه من طاقة ومياه. ألا من سبيل إلى تقليص هذا كله. لدينا أيضا أرصدة ضخمة في البنوك، وعقارات وأراض لأناس جمعوها بطرق غير مشروعة وباستغلال النفوذ. ألا من وسيلة لاستردادها. لدينا سفه في الإنفاق الحكومي... مكاتب لكبار المسئولين مزودة- لزوم العصر وأبهته- بمختلف السلع المعمرة الحديثة، وبالأجهزة التي لا يجيدون التعامل معها، لا يعرفون إلا فتحها وقفلها. أجهزة التكييف تعمل ليلا ونهارا، صيفا وشتاء، الإضاءة المكثفة لا تنقطع. من يدخل مكتب أي مسئول من هؤلاء لا يصدق أن هذا البلد فقير، وكيف يصدق وهو يدوس أبسطة وثيرة وأمامه أثاث فاخر، ومن فوقه إضاءة ناعمة، ويداعبه هواء منعش. ولكل مسئول سيارة أو أكثر له ولذويه، ولمن يعملون معه. هل أحصى الوزير عدد زملائه في الوزارة، وأحصى ما يستهلكونه من ميزانية الدولة بلا عمل منتج. وكم مساعد وزير وكم مستشارا، وكم وكيل وزارة. كم محافظا وكم سكرتير محافظة وسكرتيرا مساعدا. كم رئيس هيئة وكم رئيس مؤسسة، كم رئيس بنك، كم رئيس جامعة وكم نائبا. وهل استعد الوزير لتدبير مخصصات أعضاء مجلسي الشعب والشورى! ألم يفكر الوزير في هذا البذخ، وهل تراجع عن الضرائب التصاعدية والحد الأقصى للأجور الذي تغنى به كثيرا. ومن غرائب الأقوال ما فاه به مؤخرا وزير القوى العاملة من "أنه لا يعلم أي شئ عن منظومة الأجور في وزراته، فقط يسمع عن مسميات كثيرة في الرواتب". وأغلب الظن أن معظم وزرائنا لا يعلمون شيئا عما يدور في وزاراتهم، وفي البلد. لا حول ولا قوة إلا بالله.