من المؤكد أن تحرير سرت وتصفية العقيد معمر القذافي بهذه السرعة سوف يمنح الليبيين الفرصة لإغلاق صفحة الماضي، والتفرغ لبناء المستقبل، بدلًا من الانغماس في حروب استنزاف، ربما استمرت لسنوات، ووضعت وحدة ليبيا أمام اختبار صعب، هذا لو استطاع القذافي الهرب طويلًا، وجمع حوله القبائل المتعاطفة معه، مستعينًا بالأموال الطائلة التي نهبها هو وأسرته. لكن هذه النهاية السريعة لم تخل من إشكالات، قد تطال بناء ليبيا الجديدة، فنعم نجح الثوار في السيطرة على سرت، مسقط رأس القذافي ومعقل قبيلته القذادفة، لكن ثمن ذلك كان تحويل المدينة إلى ركام، وتهجير معظم أهلها، الذين مازالوا يكنون بعض التأييد للقذافي، الذي حول قريتهم البسيطة إلى مدينة فارهة. كذلك فإن الملابسات التي أطاحت بمقتل القذافي ألقت بظلال من الشك على مصداقية وعود المجلس الانتقالي باتباع سياسة "المصالحة والعفو"، إذ نفذ الثوار القادمون من "مصراته" ثأرًا قبليًّا من الرجل الذي دمر مدينتهم خلال أشهر الثورة، ولم يكتفوا بذلك؛ بل حملوا جثمان القذافي ونجله المعتصم إلى مدينتهم ليتحول إلى "فرجة" لأهالي المدينة، التي قدمت أكثر من 1400 شهيد على يد كتائب القذافي، التي حاصرت مصراته لعدة أشهر، وحولتها إلى حطام، لا يختلف كثيرًا عما حدث بسرت، بل إن الثوار كانوا أكثر رحمة بأهالي سرت، حيث منحوهم الفرصة لمغادرة المدينة بسلام، بينما حاصرت الكتائب مصراته ومنعت أهلها من الفرار. السيناريو الأفضل ورغم كل ذلك فإن غياب القذافي عن المشهد يعد أفضل السيناريوهات، حتى إذا ما قورن بسيناريو اعتقال القذافي وتقديمه للمحاكمة، لأن ذلك كان سيعني إطالة أمد المرحلة الانتقالية، ويعمق الحساسيات القبلية بين مختلف مناطق ليبيا، ويمنح اتباع العقيد الفرصة لشن حرب عصابات من أجل تحريره، في حين أن الغياب التام يغلق الباب أمام أي احتمال لعودة نظام العقيد، حتى مع هروب سيف الإسلام، لأن قوته كانت تنبع أساسًا من علاقاته مع الغرب، بينما يفتقد لأي حضور داخلي، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع القبائل، التي كان القذافي يمسك متفردًا بكافة مفاتيحها. وإذا كان مقتل القذافي وتحرير سرت، وقبل ذلك بني وليد، مكّن المجلس الانتقالي من إعلان تحرير ليبيا، رسميًا وفعليًا، فإن التحديات المقبلة لا تقل أهمية عن التحرير، وقد بدأت بشائر ذلك حتى قبل اكتمال التحرير، إذ ظهر للعلن خلاف عميق بين جزء مهم من الثوار وبين محمود جبريل ، رئيس المكتب التنفيذي للمجلس الانتقالي، والمقرب بشدة من الغرب، إذ يأخذ الثوار على جبريل ولعه بالسيطرة على أكبر قدر من الصلاحيات والسلطات، إضافة إلى تصريحاته المتكررة، التي تتضمن رسائل تخويفية بشأن مستقبل ليبيا، وهو ما يرفضه الثوار، ويعتبرونه مسوغًا للتدخلات الخارجية. بديل بنفس المواصفات الخلاف حول جبريل أعاق قبل عدة أسابيع تشكيل حكومة جديدة، وتم تأجيل الأمر لحين اكتمال عملية التحرير، وهكذا بات الليبيون أمام "محك رئيس" لإثبات قدرتهم على احتواء خلافاتهم وإدارة العملية الانتقالية في سلاسة، وتكمن صعوبة هذا التحدي في أن جبريل شكل همزة الوصل بين الثوار والغرب، ويجب أن يتمتع البديل بمواصفات مماثلة، خاصة أن بناء ليبيا الجديدة سيحتاج إلى حكومة منفتحة على الخارج، على الأقل حتى تتمكن من استعادة عشرات المليارات من الأرصدة الليبية المجمدة في دول العالم، خاصة في الغرب. ومع أن المستشار مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الانتقالي، يتمتع بشخصية متزنة وخطاب توافقي تصالحي، كما أنه يحظى باحترام من مختلف الليبيين، خاصة الثوار بمختلف تنويعاتهم، إلا أن البعض يشكك في قدرة عبد الجليل على إبداء الحزم المطلوب تجاه بعض الملفات الحساسة، فهناك مواقف لا يمكن علاجها إلا بالحسم ولا تصلح معها اللغة التصالحية، وكذلك فإن عبد الجليل في كثير من الأحيان كان صريحًا ومباشرًا بدرجة ربما لا تصلح مع مجتمع قبلي معقد، يحتاج إلى موازنة بين الصراحة والدهاء. تحدٍّ صعب وسيجد عبد الجليل، الذي كان أحد أقطاب نظام القذافي ثم انشق عنه وانضم للثوار مع الأيام الأولى للثورة، نفسه خلال أيام أمام تحدٍّ صعب، يتمثل في كيفية دمج رموز نظام القذافي، الذين انضموا للثوار، في أجهزة الدولة الجديدة، حيث إن الكثير من هؤلاء يمثل كفاءات إدارية ومهنية تحتاج إليها ليبيا بشدة، لكن في المقابل يتشدد بعض الثوار في القبول بذلك، معتبرين أن من تركوا القذافي في الساعات الأخيرة لا يحق لهم ركوب العربة الأولى في قطار الدولة الجديدة، خاصة أن بعضهم كان جزءًا من عملية القمع والنهب المنظم التي مارسها القذافي وأسرته، في حين لم يُسمع للآخرين، بما فيهم عبد الجليل نفسه، صوت حينما كان القذافي في عز قوته وجبروته. ولا يقتصر الأمر على ذلك، فالثوار أنفسهم منقسمون، حيث يرى القادمون من مصراته ومدن الجبل الغربي أنهم تحملوا العبء الأكبر من عملية التحرير، وتعرضت مدنهم لعمليات تنكيل وتدمير مروعة، ولذا فإنهم يجب أن يحصلوا على الجزء الأكبر من السلطة الجديدة، وهو منطق يرفضه من يريدون بناء الدولة الجديدة على أساس "الكفاءة" وليس "المحاصصة المناطقية أو القبلية"، مع الإقرار بأن المناطق المهمشة تستحق أولوية قصوى خلال المرحلة المقبلة، وربما يخفف من حدة هذا الصراع أن ليبيا لديها موارد مالية وأرصدة تكفي للبدء فورًا في عملية إعادة الإعمار، لكن ذلك يتطلب إدارة سياسية واقتصادية فعالة وشفافة، حتى لا تتحول "إعادة الإعمار" إلى نهب منظم، كما حدث في العراق وأفغانستان. "استعمار الناتو" قائمة الخلافات تشمل كذلك تباين الرؤى الإيديولوجية والفكرية بين الثوار، فالبعض يتخوف من الحضور الكثيف للإسلاميين في صفوف الثوار، وفي المقابل يتخوف الإسلاميون من بعض الشخصيات، التي يعتقدون أنها تمتلك صلات وتتلقى دعمًا من الغرب، ويخشون أن يكون ثمن تدخل الناتو لضرب كتائب القذافي هو تصعيد هؤلاء إلى "سدة الحكم"، لأنه في هذه الحالة ستكون ليبيا تحررت من ديكتاتورية القذافي لتسقط في "استعمار الناتو"، وهو احتمال ليس ببعيد، خاصة أن البعض في الغرب يتحدث علنًا عن ضرورة دفع الليبيين لفاتورة تدخل الناتو، ويقدرون تلك الفاتورة بأكثر من تريليون دولار، وهو رقم يعني رهن بترول ليبيا للغرب إلى الأبد. وبالطبع فإنه "ليس كل ما يتمناه الغرب يدركه"، وهو الأمر الذي أثبتته التجربة في العراق وأفغانستان، إلا أن ذلك يتطلب درجة عالية من الوعي من جانب الليبيين، إضافة إلى ضرورة التحلي بروح "المصالحة والتسامح"، حيث إن الرهان الخارجي على تقسيم ليبيا لعدة دويلات مازال قائمًا، لأن ذلك هو الحالة النموذجية التي تمكن الغرب من الاستيلاء على البترول الليبي في سهولة ويسر، في حين أن وجود دولة مركزية، تمثل الليبيين بمختلف مناطقهم وقبائلهم، يمثل سدًّا منيعًا لإفشال تلك المخططات. المصدر: الإسلام اليوم