هو من الطيور العائدة إلى نقاء الفكر الإسلامي عن حب واقتناع ودراسة، بعد أن اغترب عنه واجتذبته فلسفات وأفكار غربية خادعة. رجع أخيراً وأيقن أن الحضارة الإسلامية هى خير ما أنتجه الفكر الإنساني على مر العصور، وآب إلى رشده مؤكداً عظمة الإسلام كدين ورسالة، وأن الوجودية التي حمل لواءها لمدة ستين عاماً ليست إلا شطحات وخزعبلات لا قيمة لها فى دنيا الناس والعلم والواقع..إنه الدكتور المفكر العربي عبدالرحمن بدوى "1917-2002" الذى نبغ شاباً، وبرز أستاذاً جامعياً، وخاض معارك طاحنة مع كبار المفكرين والأدباء فى مصر والوطن العربي، وأصدر العديد من الدراسات التى ألبت عليه جميع التيارات، حتى وصفه البعض بأنه عدو التراث العربي الإسلامي. لكنه فى النهاية.. عاد وآب منقباً عما في الفكر الإسلامي من النفائس والدرر، وحاملاً لواء الدفاع عنه ضد أباطيل المستشرقين، ومن لفّ لفهم من تلاميذهم فى البيئة العربية، فأصدر كتابيه اللذين أحدثا دوياً فى الداخل والخارج وهما:"الدفاع عن القرآن ضد منتقديه" و"دفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم ضد المنتقصين من قدره"، وبالرغم من أنه تأثر فترة بالحضارة الأوروبية وعقائد الفلاسفة الجادين منهم والذين حادوا عن الجادة، وأعجب مثل غيره بالوجودية وهلل لها. وقد كان الرجل موسوعى الثقافة يتقن عدداً من اللغات الحية كالفرنسية، والإنجليزية، والألمانية، والإيطالية، والأسبانية، واللاتينية، واليونانية، والعبرية، وتعرف إلى حضارات الإنسانية جمعيها، واستفاد من مناهج التفكير فى كل الحضارات، وأفاده فى الكشف عن عظمة الحضارة الإسلامية التى ختم حياته بالدفاع عنها وخصوصاً أنه عاش بين الغرب سنوات طوال، عرك فيها سلوك هذا القوم وكيف يفكرون ويتعاملون مع الإسلام.
نلتقى معه فى دراسته الرائعة "دور العرب فى تكوين الفكر الأوربى"، وترسم هذه الدراسة خطوطاً إجمالية لدور الفكر العربى فى تكوين الفكر الأوربى لأن هذا الدور واسع المدى عميق الأثر، شمل الصناعات، ولم يقتصر على الفلسفة والعلوم الطبيعية والفيزيائية والرياضيات، بل امتد كذلك إلى الأدب: الشعر والقصص، وإلى الفن والمعمار والموسيقى، ويذكر المؤلف أنه "تمت عملية الإخصاب بين الفكر العربى البالغ كمال تطوره وبين العقل الأوروبى، وهو بسبيل يقظته وتلمس طريقه فى البداية، وتمت عملية الإخصاب هذه فى منطقتين: الأولى أسبانيا وفى مدينة "طليطلة" منها بخاصة، والثانية صقلية، وجنوب ايطاليا، وخصوصاً فى عهد ملوك النورمان، وأشهرهم "روجر الثانى" المتوفى 1157، وفريدريك الثانى المتوفى 1250م، فقد كانت هاتان المنطقتان نقطتى التلاقى بين الثقافة العربية الإسلامية الزاهرة وبين العقلية الأوربية الناشئة، لأنهما على الحدود بين دار الإسلام وأوروبا ...
ويسرد الدكتور بدوى رحلة الاحتكاك الغربى بالثقافة العربية الإسلامية من خلال الرحلة التى قام بها "جربير دى أورياك"، الذى اصبح فيما بعد البابا "سلفستر الثانى"، إلى قرطبة طلباً للحكمة، وأمضى بها ثلاث سنوات فى عصر الحكم الثانى (ت366ه)، فكان لهذه الرحلة أثرها البالغ فى اهتمام "جربير" بالعلم العربى ومحاولة نشره فى أوروبا المسيحية ... وكانت "طليطلة" هذه المدينة الأسبانية العريقة التى كان لها شأن قبل الإسلام كانت عاصمة دولة القوط، وارتفع شأنها بعد الإسلام وبلغت مكانة كبرى فى عهد ملوك الطوائف إلى أن استولى "الفونس السادس" سنة 478ه ، وقد امتازت بمكتباتها الضخمة العظيمة، وخصوصاً وقد انتقل إليها آلاف المجلدات من المشرق، وسرد المؤلف أسماء كبار العلماء الفرنجة والمترجمين الذين تعلموا بطليطلة، وورث الفرنجة هذا التراث بعد سقوط المدينة وكانت الإرهاصات التى بدأت منها بذورالنهضة الأوربية.
تناول المؤلف أثر العلوم العربية فى نهضة الأوربية المعاصرة فى كل المجالات فى الشعر، والعمارة، والعلوم التطبيقية، والتصوف، والموسيقى، والفلسفة، ففى مجال الشعر كان تأثير الشعر الأندلسى فى نشأة الشعر الأوروبى الحديث فى أسبانيا وجنوبى فرنسا، خصوصاً أن الزجل الأندلسى والموشحات قد انطوى على المرحلة الأولى لنشأة الشعر الأسبانى نفسه، بل كانت المحاكاة المباشرة هى السائدة فى هذا الشعر الأسبانى لفترات طويلة، ولم يقتصر الأمر على طريقة النظم، بل امتد التأثير العربى فى نشأة الشعر الأوروبى إلى طريقة علاج الموضوعات، ففكرة "الحب النبيل" التى تسود الغزل فى الشعر "البروفنسالى" نجد أصلها فى الشعر الأندلسى (ابن حزم)، وكان تأثير الشعر الأندلسى فى شعراء "التروبادور" الأوائل، ويضرب المؤلف أمثلة رائعة لتأثير هذه الشعر العربى فى الآداب الأوروبية إلى عهد قريب.
كما يعرج المؤلف للحديث عن دور العرب فى تكوين الفكر الفكر العلمى الأوروبى فى مختلف العلوم كالطب، والطبيعة، والكيمياء، والفلك، والرياضيات، والتاريخ الطبيعى، والفلاحة، أما فى الرياضيات فقد كان للعرب الفضل الأكبر لأنهم أدخلوا النظام العشرى فى العدد، وكان تأثير كبار الرياضيين الذين عرفتهم أوروبا وترجمت مؤلفاتهم للغة اللاتينية مثل: الخوارزمى، وبنوموسى بن شاكر، وتأثير العرب فى الفلك كان عظيماً إذ عرفت أوروبا آثار العرب فى هذا المجال وعلمائه مثل: الفرغانى، والبلخى، والبتانى، وأصالة علم الفلك عند العرب نشأت من كونهم طبقوا حساب المثلثات على الأرصاد الفلكية، واخترعوا وصنعوا آلات جديدة للرصد.
أما فى الكيمياء، والفيزياء فللعرب أثر واسع فى تكوين الفكر الأوروبى وأبرزهم أثرأً هو الحسن بن الهيثم وبرز فى علم البصريات وقد ترجم كتابه "المناظر" إلى اللاتينية مبكراً، ويتضمن جيدة عن المرايا المستوية والمخروطية والأسطوانية والكروية والبيضاوية وفى الانحراف والانكساروالابصار.
وفى مجال الكيمياء قام العرب باكتشافات هائلة من بينها: الماء الملكى، وحمض الكبريتيك، وحمض الأوزتيك ونترات الفضة، ومن أشهرهم جابر بن حيان ..
وفى مجال الطب قام الأطباء العرب باكتشافات بارزة جعلت دراسة الطب فى أوروبا عيالاً عليهم لأكثر من أربعة قرون، وبرع منهم العديد مثل: ابن زهر، والرازى، والزاهراوى، وابن سينا، وابن النفيس ....
كما يرصد المؤلف لدور التصوف الإسلامى فى نشأة الفكر الأوروبى وكان لمتصوفة الإسلام تأثير على التصوف فى أوروبا فقد كان لابن عباد الرندى تأثير على الصوفى الأسبانى الكبير يوحنا الصليبى، وللغزالى تأثيره فى دفاع "بسكال" عن الدين، أما ابن عربى فقد كان تأثيره فى تصورات "دانتى" الدينية الأخروية فى الكوميديا الألهية، كما يرصد المؤلف لدور العرب فى تكوين الفلسفة الأوروبية إذ كان للعرب دور مزدوج: دور الرسول الحامل لهم رسالة اليونان فى الفلسفة، ودور الفاعل بما ابتكر وأنتج، فعن طريق العرب عرفت أوروبا فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر مؤلفات أرسطو وقطعاً من مؤلفات أفلوطين وأبرقلس ومعالم من فلاسفة أفلاطون .
وهذا..وقد ظل المؤلف يبحث وينقب عن فضل العرب فى المجالات التى استفادت منها أوروبا مباشرة عندما بدأت نهضتها وفيه البرهان الكافى لدور الحضارة الإسلامية فى رقى الإنسانية وتأثيرها الأهم فى الحضارات الأخرى، لأنها حضارة متجددة كلما انزوى دورها عاد ليبرز من جديد، وليدحض مزاعم القوم الذين يقولون ان الحضارة المعاصرة اعتمدت مباشرة على تراث اليونان، وهذا لعمرى ختل أكيد .. وهذه الرؤية مبعثها الحقد على الإسلام وحضارته، الذى لا يطيقونه العلمانيون والملاحدة ومن آزرهم.