فرادى وجماعات يتوافدون على قرية "أمتضي" جنوبي المغرب، خلال شهر مارس/ آذار من كل سنة، بجلابيبهم الصوفية وعماماتهم البيضاء وسبحهم الطويلة حول الأعناق، فهم مريدو "الدرقاوية"، إحدى الطرق الصوفية، أو "الفقراء إلى الله" كما يسمون أنفسهم. يدخلون القرية الهادئة (حوالي 900 كم جنوب العاصمة الرباط)، الواقعة على سفوح جبال الأطلس الصغير شرق محافظة كلميم، مرددين أشعارا صوفية باللغة الأمازيغية بألحان تنم عن الشوق للقاء إخوانهم من مريدي إحدى أقدم الطرق الصوفية في الجنوب المغربي، للاحتفال بموسم الفقراء , و تنشط طرق صوفية أخرى بالجنوب منها، "البودشيشية"، و"الناصرية " و" التيجانية " التي أسسها الشيخ "سيدي احمد التيجاني . وفي عام 1923، أسس إبراهيم بن مسعود الدريوش هذه الطريقة في مسجد قديم بقرية اكلوي، وحفظ بعض الأجزاء من القرآن الكريم بكتاب قرية "تليلت" (شرق أمتضي) التي ولد فيها سنة 1878, وفي شبابه التقى بالشيخ "سيدي ابراهيم بن صالح التزروالتي " وتلقى على على يديه اصول الطريقة الدرقاوية , وأمره شيخه بالتوجه إلى قرية أمتضي التي نحو 110 كيلومترات شمال شرق مدينة كلميم لنشر الطريقة وتعليم الناس القراءة والكتابة وأصول الدين وفق ما أوردته مصادر تاريخية محلية . وتوفى الدريوش عام 1978 عن عمر ناهز المائة سنة، وبدأ تنظيم موسم الزاوية "الدرقاوية" السنوي، في قرية "أمتضي"، التي يسكنها حوالي ألف نسمة، تخليدا لذكرى وفاة مؤسس هذه الطريقة، التي يُقدر منتسبوها بالالاف بجنوب المغرب. فخلال مارس ، يقام موسم مريدي "الدرقاوية" في إحدى أهم محاضن الطريقة في منطقة سوس بالجنوب المغربي، حيث زاوية "أمتضي"، التي يزال إشعاعها الروحي مستمرا إلى اليوم. الزاوية "الدرقاوية" في منطقة سوس نجحت في توظيف الأمازيغية في التراث التصوفي، لا سيما وأن أغلبية سكان القرية الجبلية من الأمازيغ، ومن هنا فإن أغلبية الأذكار بالأمازيغية، كتبت بالحرف العربي. بين جنبات فج صخري طبيعي تتوسطه واحة تمتد لكيلومترات، يتردد صدى الأذكار الدينية لمريدي "الدرقاوية"، والتي تبث إلى خارج الزاوية عبر مكبرات الصوت. في خارج البناية العتيقة للزاوية يجتمع ثلة من زوار الموسم على "شيخ" يبيع سبحا وكتبا ومطبوعات تضم نسخا قديمة لكتب ألفها شيوخ الطريقة "الدرقاوية" في منطقة سوس، وشرائط قديمة لمواعظ دينية وأشعار بالأمازيغية المحلية. وللسبحة أهمية كبيرة في التراث الصوفي عموما، ولدى مريدي "الدرقاوية" على وجه الخصوص، فهي عنوان الانتساب إلى هذه الطريقة، ودليل على اهتمام المريد بأوراده اليومية، التي يتعهد أمام شيخه على ملازمتها. ويشتهر منتسبو الطريقة "الدرقاوية" بوضع سُبحهم الكبيرة حول أعناقهم، فهذا عنوان انتسابهم إلى هذه الطريقة. شيوخ هذه الطريقة وروادها الأوائل خلفوا إرثا مهما من الكتب والمخطوطات المكتوبة بالأمازيغية بحروف عربية في مواضيع كثيرة منها، الفقه وأشعار المديح والسيرة النبوية، ولا يزال بعضها يعرض أمام المريدين للبيع في ملتقيات "الدرقاوية". عبد الرحمن الدريوش، أحد أبناء مؤسس هذه الزاوية، قال لوكالة الأناضول إن "الدور الرئيس للطريقة الدرقاوية هو السعي إلى إحياء القلوب بالإيمان وتزكية النفس ونشر القيم الروحية.. وهذا هو دورها منذ عقود ولا يزال". وعن الإقبال على هذا التجمع، أوضح الدريوش أن "المئات من زوار هذه الزاوية يفدون سنويا من مختلف المدن والقرى الجنوبية ويقضون ثلاثة أيام في ضيافة سكان القرية يحيون لياليها بالأذكار والمواعظ والأشعار الصوفية بالعربية والامازيغية ويتعلمون أمور دينهم". وخلال ساعات الليل تكتظ الزاوية بالمريدين في حلقات جماعية للسماع الصوفي، أو ما يسميه منتسبو هذه الطريقة ب"العمارة"، تصاحبه إيماءات وحركات منتظمة، ويقوم أحدهم بتوسط الحلقة، وتنظيم إيقاع المريدين الذين يعيشهم على وقع عالمهم الروحي. ورغم التطورات الاجتماعية والسكانية، التي شهدتها المنطقة خلال العقود الأخيرة، إلا أن الزاوية الدرقاوية استطاعت الحفاظ على امتدادها الروحي، حيث يلتزم المريدون بالحضور في موسمها السنوي، ويستحضروا ذكرى شيخهم، ويستضيف سكان قرية "أمتضي" في بيوتهم الزوار والمريدين لمدة ثلاثة أيام ، وهي عادة درج عليها السكان منذ عقود. زوار موسم "الدرقاوية" يغلب عليهم كبار السن والشيوخ، ورغم ذلك يقول صلاح الدين الدريوش، وهو أحد أحفاد مؤسس هذه الزاوية، لوكالة الأناضول، إن "الشباب يشكلون نسبة مهمة من مريدي الطريقة الدرقاوية، رغم أن شباب منطقة أمتضي لا يهتمون كثيرا بالانضمام إلى الطريقة والالتزام بأورادها وطقوسها". وللزاوية الدرقاوية، بحسب منتسبين إليها، دور إصلاحي مهم في تاريخ الجنوب المغربي، حيث ساهمت في إخماد اضطرابات وحروب أهلية عصفت بقبائل المنطقة خلال مرحلة السيبة (مرحلة شهدت خروج مناطق في المغرب عن نفوذ السلطات المركزية) في بداية القرن الماضي . وخلال مرحلة السيبة، شهد المغرب امتناع بعض القبائل، ولا سيما في مناطق وعرة ونائبة بالجنوب، عن دفع الضرائب، والخروج عن طاعة السلطان.
ويزيد الحضور الصوفي من الإرث الثقافي والروحي لقرية "أمتضي" المعروفة كوجهة سياحية مهمة في الجنوب المغربي، لما تتوفر عليه من مؤهلات طبيعية وموروث تاريخي عريق. وتتميز القرية بإرث تريخي ضارب في القدم منها "أيكودار" وهي حصون قدينة بنيت بإحكام فوق قمم جبال المنطقة مازال بعضها شامخا، وتتوفر ايضا على موارد طبيعية مهمة وواحة ساحرة تمتد لكيلومترات، إضافة إلى ثروة مائية مهمة تنساب بين الصخور وتكون شلالات تجذب المئات من الزوار من داخل المغرب وخارجه.