وتتعد نصوص القرآن الكريم، مؤسسة للحرية،ومحاربة للقهر والطغيان، مما يجعل مقاومة الطغيان،والتأسيس للحرية فريضة دينية: - فقد أكد سبحانه وتعالى على ضرورة مقاومة الطغيان، وضرب لنا مثلا بذلك أمره لموسى عليه السلام وأخيه هارون بأن يسعيا إلى نهى فرعون مصر عن طغيانه، فقال فى سورة طه : (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)). - وأنذر الطغاة ، الغارقين فى الملاذ الدنيوية بالويل والثبور وعظائم الأمور، فقال فى سورة النازعات (فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)). - وقرن سبحانه وتعالى بين الطغيان والفساد، ويتأكد لنا هذا الاقتران فى قوله عز وجل فى سورة الفجر (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)). - وأعلنها صريحة مدوية بأن من يطغى، فإنه سيغضب الخالق جل وعلا ، فقال فى سورة طه (...وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81))، وقال سبحانه وتعالى فى سورة ص ( هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56)). أما " الظلم"، فقد خصه سبحانه وتعالى بعشرات الآيات التى تناولته من جوانب شتى، ووفق معانى متعددة، والأبرز فيها أنها تعتبر الظلم محرما، وأنه قرين الفساد، ويستحق غضب الله، ولابد من عدم الخنوع له، ولو أردنا تفصيل ذلك لاحتاج الأمر إلى دراسة مستقلة، ويكفى هنا إيراد نماذج من هذه الآيات : - فقال تعالى فى سورة الأعراف (...وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)). - وفى سورة هود (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)). - وفى سورة المؤمنون (...وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)). لكن، يخطئ من يتصور أن جوهر الديمقراطية، وهو الحرية، ينحصر فى مطلق حرية التفكير والتعبير.. ذلك أن هناك " بنية أساسية " لابد من توافرها لضمان ممارسة الديمقراطية والحرية، وهو ما يتصل بالشروط المجتمعية من تشريعات ونظم اقتصادية وسياسية واجتماعية، وأوضاع طبقية تقوم كلها على العدل، الذى نعتبره قرين الديمقراطية، ولعل هذا ما أثبتته وقائع الثورة المصرية الأخيرة، عندما كشفت عن تباينات طبقية حادة، نتجت عن ثراء فاحش، يتغطى بالسلطة السياسية، مما أدى إلى عملية نهب تاريخية فاقت التصور، حتى لم يبق للجماهير المصرية إلا الفتات، مما أدى بهم إلى أن يعيشوا صور حرمان، أضعف إرادة كثيرين، وبث اليأس فى قلوبهم، حتى أتت الخطوة الأولى فى نزع فتيل الطغيان من الشباب أنفسهم، الذين لم يحملوا قدر ما حمله آباؤهم وأجدادهم من حرمان ويأس وخوف ورعب. وفى وسط هذا كله، كانت مؤسسة التعليم الأولى " المدرسة " تقف مرآة عاكسة للظلم القائم، والطغيان السارى.. وأصبح من أكثر ما نتمنى ونحلم به أن تكون المدرسة بيئة تبرأ، ولو إلى حد ما، من موبقات القهر الخارجى فتبذر بذور حرية وديمقراطية، بحيث تعين على تنشئة أجيال ترفض الظلم، مستعدة لأن تدافع عن حريتها. وغرقنا فى جدل أشبه بالمناقشات السوفسطائية: - فبعضا قال أنه من غير الممكن تصور مدرسة ديمقراطية، فى وسط مجتمع يعيش قهرا ويتنفس فسادا. - وبعضنا الآخر قال، بأنه من الصعب رفض الطغيان وكشفه، إلا عن طريق من يعرفون قيمة الحرية والديمقراطية، ويقدرون ضرورة التضحية فى سبيلها، مما هو واجب أن تبث بذوره المدرسة. ثم إذا بالمفاجأة الكبرى والصيحة المدوية، فكاتب هذه السطور الذى جعل قضية الديمقراطية عموما، وفى التعليم خصوصا شغله الشاغل، تكتحل عيناه بمرأى جمع الشعب تهدر بطلب الديمقراطية، وإذا بأذنيه تكاد ترقص طربا بصيحات الملايين من الشعب المصرى تغنيا بالحرية، فى ثورة تاريخية، زلزلت أركان القهر والاستبداد، ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، وإذا بهبات شعبية عارمة فى أنحاء مختلفة من الوطن العربى تسرى مسرى النار فى الهشيم ، تنشد التحرر، وتحطم الأغلال . وإذا بأنهر من الكتابات، وشلالات بشرية تهدر فى الشوارع والمحافل تطلب أن تظلل ألوية الديمقراطية، كل ما نعيشه من نظم ومؤسسات مجتمعية، وبالتالى تعلن مقدار الشوق إلى التمتع بالديمقراطية، على مختلف الأصعدة، ويتكشف للجميع أن ما عانوه من فقر وسوء حال ، وسوء تعليم، وأداء اقتصادى ضعيف، وشروخ فى جدار القيم، كل هذا إنما هو بعض من كل، بعض من مناخ القهر والاستبداد، وأن لا خلاص من الكثير من صور القصور والضعف والخلل إلا بأن تطلق طاقات المواطنين، ليفكروا ، كما تصل إليه عقولهم هم لا عقول الآخرين، ممن يتربعون على الكراسى العالية. وفاضت صفحات رسالة ماجستير، بلغت الثلاثمائة صفحة على وجه التقريب، كتبتها باحثة نادرة المثال، دقة وعمقا وإحاطة ( أمينة التيتون )،أشرفت عليها مع ابنى وزميلى الدكتور مصطفى عبد القادر، بالكثير من المظاهر والآيات والمواصفات التى يجب أن تتوافر فى المدرسة حتى يمكن أن نصفها بأنها ديمقراطية، ونثق أنها يمكن بالفعل أن تنشئ طلابا ديمقراطيين، يخرجوا، بعد مرحلة التعلم المدرسى إلى المجتمع، فيبثون قيما ديمقراطية، ويدربوا غيرهم على الممارسة الديمقراطية، ويشيعوا ثقافة الديمقراطية،ومن ثم تسرى فى عروق المجتمع دماء صحة وعافية، تمكنه من أن يصعد بالأمة إلى آفاق التقدم والنهوض الحضارى. ولعل من المفيد أن نشير إلى النذر اليسير مما لابد أن تتسم به المدرسة الديمقراطية، كما أشارت إليها " أمينة " فى صفحات عملها العلمى المتميز: - فمن ذلك أن تقوم المدرسة على التوجه الذاتى، حيث ينبنى هذا الأساس على افتراض الثقة فى طبيعة الإنسان . ويجرى التعليم هنا عن طريق الاستكشاف، والإبداع، والبحث عن المعنى، من خلال تنظيم ذاتى، والانغماس بشغف فى العمل ومتابعته فى اللحظة الراهنة. أما العلاقات السائدة، فتغلب عليها الأفقية والمساواة. - ومن ذلك أيضا، التأكيد على التربية النقدية، حيث يقوم هذا على مبدأ أن هدف التعليم لا ينبغى أن يكون نقل المعرفة، والمحافظة على التقاليد الاجتماعية، بل تحويل المجتمع، من خلال مساعدة الطلاب على تنمية تشكيل رؤى وتنمية وعى بالظروف المحيطة بثقافاتهم، ولا يتأتى الاهتمام بالحرية والتحرر من منظور فردى، وإنما من منظور اجتماعى، يستهدف التغيير الثقافى واقتصادى والسياسى. - والمدرسة الديمقراطية مدرسة تعتبر المجتمع امتدادا لفصولها، حيث لا يقتصر التعليم على الفصل التقليدى، بل تتم الاستفادة من موارد المجتمع البشرية والمادية، من خلال زيارة المتاحف والحدائق والمكتبات فى الأنشطة اليومية، أو دعوة خبراء لمحاضرة الطلاب والعمل معهم من أجل تلقيح الأفكار. - كما لابد أن تخلو المدرسة الديمقراطية من العنف، ومن هنا ضرورة الالتزام بميثاق وضعه مختصون يؤكد على أن لجميع أعضاء مجتمع المدرسة الحق فى مدرسة آمنة، يسودها السلام. وعلى كل فرد مسئولية يتحملها فى المشاركة فى خلق بيئة إيجابية وملهمة للتعلم والنمو الشخصى. - ومن المؤكد أن دور المدرس هنا جوهرى، على الرغم مما توحى به الصفة الديمقراطية من التركيز على الطالب، لا المعلم، فدوره هنا حيوى؛ من حيث قدرته على توفير بيئة يستطيع الطلاب التعلم فيها، ويهتم بالطلاب، ويرعاهم، ويكون صبورا عليهم، لا سيما بالنسبة للطلاب الذين فشلوا فى التأقلم مع التعليم التقليدى، وصار لديهم قصور فى الثقة بأنفسهم، وبالكبار، ومن ثم يكون دور المعلم هنا أن يعيد إليهم شعورهم بالثقة وبالانتماء. ويطول بنا المقام لو حاولنا أن نسوق، ولو أمثلة ونماذج، فضلا عن أن القراءة المستفيضة التفصيلية لمثل هذا العمل العلمى، نادر الجهد والمحتوى وأسلوب التناول، هى عملية ممتعة فى حد ذاتها، بحيث تستحق أن نقرن بها قول الشاعر بأنه لا يدرك الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها.