لا أخفي قلقي الشديد من تعالي نبرة العداء للمجلس العسكري وكيل الاتهامات له التي لا تتوقف عند نقد ورفض سياساته وقراراته وإنما تذهب صراحة لتخوينه واتهامه بأنه ضد الثورة وأنه يدبر في الخفاء الانقلاب على الثورة. البعض مقتنع لدرجة اليقين بهذه الادعاءات، والبعض عينه على مكتسبات انتخابية وسياسية ضيقة فيريد أن يظهر بشجاعة وبطولة زائفة تزداد بقدر تهجمه على المجلس العسكري. إن حالة السيولة السياسية التي تموج بها البلاد تحتاج إلى الاتفاق على ضوابط حاكمة قبل أن ينفلت الزمام وننزلق إلى فوضى سياسية. أول هذه الضوابط ألا نتهم طرفا في نواياه ومقاصده الخفية بدون دليل قاطع، خاصة لو كان الاتهام يرقى إلى وصفه بأنه عدو للشعب ومُخطط لعودة النظام البائد. لابد من أدلة قاطعة، وإلا فتحنا الباب لاصطناع عدو نطفئ به غضبنا ونشف به غل صدورنا. التصريحات الخطيرة التي أطلقها الأستاذ عصام سلطان نائب رئيس حزب الوسط في ميدان التحرير وفي لقاء تليفزيوني منذ أيام، تصريحات – لو صدقت - تكشف القناع عن خيانة بعض النخب الثقافية والسياسية للثورة برغم خداعهم للرأي العام طوال الشهور التي تلت الثورة، كما تكشف اضطرابا وارتباكا في تقدير طريقة التعامل مع المجلس العسكري. هذه أهم ست نقاط والتعليق عليها من تصريحات الأستاذ عصام سلطان: النقطة الأولى: قال الأستاذ عصام سلطان "هو في أنهي ثورة في العالم الثوار جابوا الحاكم السابق وقعدوا يتناقشوا معاه إزاي يبنوا البلد ، هل ثوار فرنسا جابوا ماري انطوانيت قعدوا معاها ، ولا ثوار رومانيا جابوا تشاوشيسكو يناقشوا ازاي يبنوا رومانيا ، ولا ثورا ليبيا قعدوا مع القذافي علشان ياخدوا رأيه في كيفية الإصلاح ؟ .. ليه ثوار مصر يقعدوا مع المجلس العسكري ؟". فالأستاذ عصام سلطان يرى صراحة أن المجلس العسكري مثل الدكتاتور تشاوشيسكو ومثل الطاغية القذافي ، ولم يخبرنا لماذا جلس في السابق مع المجلس إذا كانت هذه قناعاته، ولم يخبرنا أيضا كيف يستقيم هذا مع اعترافه – في نفس اللقاء - بأن المجلس هو الذي قرر حماية الثورة والثوار، اللهم إلا لو رأى أيضا أن تشاوشيسكو والقذافي قاما بحماية الثورة عليهما !. النقطة الثانية: شن الأستاذ سلطان حملة غاضبة على د. أسامة الغزالي حرب وقال إنه اجتمع بالمشير طنطاوي مرات (وميل عليه) وحرضه ضد شباب الثورة وأنهم شوية عيال سيورطونه في حرب مع إسرائيل وأزمة مع أمريكا. وقال "بلغني أن المشير تأثر بكلامه واقتنع به، والمشير الآن قاعد مرعوب وخايف ...". لا أعرف كيف وصلت هذه المعلومات للأستاذ سلطان ؟، فإما وصلته عن طريق د. أسامة الغزالي حرب بنفسه (كونه وطى على المشير وهامسه بنصائحه) أو عن طريق المشير نفسه. وعلى كل حال لو صدقت هذه المعلومة فإن أسامة الغزالي حرب والتيار الليبرالي الذي يمثله يكون في مأزق حقيقي، لأنه بهذا يخون شباب الثورة الذي يتكلم باسمهم وينافق باسم ثورتهم ويهدم دعاوى الحرية التي صدعوا رؤوسنا بها وقدموا أنفسهم بها وكلاء عن الشعب. النقطة الثالثة: أعلن الأستاذ سلطان معلومة جديدة، وهي أن حزب الجبهة الديمقراطية الذي احتفت به النخب الثقافية وقت ظهوره عام 2007 وزفوا للمصريين آنذاك بشرى اقتراب فجر الديمقراطية، يخبرنا الأستاذ سلطان أن الموافقة على إنشاء الحزب جاءت – بإقرار د. يحيى الجمل – بعد أن ذهب الجمل والغزالي حرب للقاء صفوت الشريف وشربوا معه فنجان قهوة، وبعد دقائق صدرت الموافقة، بعد أن اتفقا معه على المطلوب، والمسموح والممنوع. هذا الكلام خطير ويمثل خيانة للأمة وخداعا للشعب. تصور هذه المعلومة، مع ما قاله مثلا د. يحيى الجمل عام 2007 بعد صدور موافقة لجنة الأحزاب على حزب الجبهة الديمقراطية، قال الجمل وقتها "إن النظام الحاكم أدرك أن حالة الخواء السياسي الموجودة في البلد الآن لابد أن تحتويها أحزاب جادة وقوية علي الساحة السياسية المصرية، لافتاً إلي أن هذه الحالة جعلت من الصعب رفض برنامج مثل برنامج حزب الجبهة الديمقراطية الذي يخاطب جميع أبناء الشعب المصري." وأعرب د. يحيي الجمل، وقتها عن سعادته بقرار الموافقة علي الحزب، وقال: "أعتقد أن لجنة شؤون الأحزاب حكمت ضميرها الوطني بموافقتها علي الحزب". أي كذب هذا وأي نفاق ؟ وقد استمرأ الجمل وقتها هذا الخداع فقال أيضا بشجاعة مصطنعة "إن حزبنا ضد ما يسمي «لجنة شؤون الأحزاب» وضد قانون الأحزاب القائم ويطالب بإلغائهما فوراً، إلا أن الحزب يرفض في الوقت نفسه قيام أحزاب علي أساس ديني أو علي أساس ميليشيات عسكرية لأن هذا يعتبر ضد أبسط مبادئ الديمقراطية والمواطنة". .. وهذا كان أول عربون المودة مع نظام مبارك: مهاجمة الإخوان والتيارات الدينية. وقد خادع الجمل والغزالي حرب الشعب بهذه العنترية الديمقراطية، بل وخادع أيضا النخب المثقفة، فخرج وقتها د. عبد الغفار شكر ليقول "لا شك أن حزب الجبهة الديمقراطية سيكون إضافة للحياة السياسية المصرية" ، وقال د. الشافعى بشير "إن الموافقة على تأسيس حزب الجبهة الديمقراطية أسعد الغالبية العظمى من المهتمين بالشأن العام وقال أن حزباً يضم الدكتور يحيى الجمل والدكتور أسامة الغزالى حرب والدكتور على السلمى وغيرهم من الشخصيات المشهود لهم بالوطنية، لابد وأن يسعد نبأ الموافقة على تأسيسه كل من يحب وطنه ويتمنى لها الازدهار". النقطة الرابعة: أكد الأستاذ عصام سلطان أن رجل الأعمال نجيب ساويرس هو صاحب التمويل السري لحزب الجبهة الديمقراطية، وهي معلومة خطيرة أخرى لأن هذه السرية لم تكن سرية على نظام مبارك ولا أمن الدولة بطبيعة الحال. ولا نعلم إذا كان هذا التمويل مستمرا إلى الآن بعد أن أنشأ ساويرس حزبه "المصريين الأحرار" وبعد أن أشيع تمويله لعدد من الأحزاب الجديدة. وبعد مضي أيام على تصريحات سلطان لم ينفها لا ساويرس ولا الجمل ولا الغزالي حرب. النقطة الخامسة: انتقد سلطان الصحفي مصطفى بكري ووصفه بأنه رأس الحربة في الدعاية للمشير وأنه يعود بالبلاد إلى سابق عهدها الإعلامي في نفاق مبارك، مع استبدال اسم مبارك بالمشير. هذا الهجوم على بكري يهدم أيضا الصورة الثورية التي يقدمها إعلام الفضائيات الخاصة لبكري وأمثاله ويجعل المواطن العادي في حيرة من أمره، من يصدق ومن يكذب. وبالتدريج يفقد الثقة في الإعلاميين والسياسيين. النقطة السادسة: كشف الأستاذ عصام سلطان عن تفاصيل لقاء حضره مع المجلس العسكري في رمضان الماضي، وفوجئ أن نصف الحاضرين من رجال الحزب الوطني ومفكريه ومنظريه، أمثال السيد ياسين وحسن أبو طالب وجمال الغيطاني. وفي الحقيقة أن هؤلاء "المثقفين" كانوا من أعظم أسباب الفساد في عصر مبارك وما قبله، ذلك لأنهم يزينون الباطل للحاكم وحاشيته، ويبررون طغيانهم واستبدادهم ويضعون لها الأطر الفكرية الظريفة التي يحاولون بها خداع الشعب. هؤلاء كانوا – ولا يزالون – أشد خطرا على الأمة من أمن الدولة ومن الإعلام الفاسد ومن رجال الأعمال الفاسدين، ذلك لأنهم يضعون لكل هؤلاء ستارا من الأخلاقيات والقيم الزائفة يغطون بها عوراتهم ويخفون بها وجوههم القبيحة. تصريحات الأستاذ عصام سلطان تحتاج لوقفات أكبر مما يحتمله مقال. والعجيب أن الرجل كرر نفس الاتهامات على منصة حزبه بميدان التحرير في مظاهرة "استرداد الثورة" الأخيرة، لكن كلامه هناك كان بروح الدعاية الانتخابية وزادت حماسته وهو يقارن حزبه الذي ناضل لخمس عشرة سنة من أجل الحصول على ترخيص لحزبه، يقارنه بحزب تم ترخيصه بعد جلسة احتساء للقهوة مع صفوت الشريف. في ناحية أخرى من ميدان التحرير كانت هناك منصة أحاطت بها الدعاية الانتخابية للشيخ حازم أبو إسماعيل المرشح المحتمل للرئاسة، وفي ناحية ثالثة تكرر انتقاد موقف الإخوان المسلمين بشدة واتهامهم بعقد صفقة مع المجلس العسكري واتهامهم بأنهم يسعون للسلطة (وهي نفس التهمة التي دأب نظام مبارك على رميهم بها) !. وبين هذه المنصات الانتخابية طافت جموع من الشباب الموجوع بآلام بلده يصرخ مناديا بالتغيير وبتلبية مطالب الثورة غير منقوصة. هؤلاء الشباب سيفقدون الثقة تدريجيا في النخب الثقافية والسياسية وهم يرونهم يستغلون ميدان التحرير لأغراض حزبية رخيصة، ولن تؤثر فيهم حماسة الشيخ مظهر شاهين خطيب الجمعة والملقب بخطيب الثورة، فأنسته عزة الإسلام فقال مبدلا لكلمات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال "إن للثورة ربا يحميها وان هذا الشعب أعزه الله بالثورة وان ابتغينا غير الثورة فسوف يذلنا الحكام". المجلس العسكري ليسوا ملائكة ولا شياطين، إنهم يصيبون ويخطئون، وأخطاؤهم مستفزة وتدعو للقلق، ولكن لنا أن نتخيل آثار ما تقوم به النخب الثقافية والسياسية من "نميمة" سياسية وتحريض بعضهم على بعض. إن هذا يمكن أن يغري المجلس بالتشبث بالسلطة وهو يرى تلك النخب بعيدة كل البعد عن الإحساس بمسئولياتها الوطنية. إن التحالف الديمقراطي خطوة مهمة وكبيرة نحو الإسراع بنقل السلطة للمدنيين، وأحسب أن موقفه الموحد وإعلانه الصريح بمقاطعة الانتخابات ما لم يتراجع المجلس كان هو الضغط المؤثر والحاسم في بداية استجابة المجلس، وإن استمرار توحد كلمة هذا التحالف من شأنها أن تعيد التوازن للحياة السياسية.