تحتل قضية الدعم أولوية كبرى خاصة فى ظل الظروف الحالية التى تمر بها البلاد و نقص الموارد المالية و تباطؤ النمو الاقتصادى و تضخم أرقام الدعم بشكل مضطرد و مخيف نتيجة للنمو السكانى و ارتفاع الأسعار العالمية للسلع المدعومة التى يتم استيرادها من الخارج. و للأسف ، فإننا ندور فى حلقة مفرغة منذ عقود طويلة و لم و لن نصل إلى شئ حتى بعد استحداث وزارة خاصة للدعم و هى وزارة التضامن الاجتماعى التى تم استحداثها منذ نحو خمس سنوات ، وذلك لسبب بسيط و هو أننا دائماً نسأل السؤال الخطأ: كيف نوصل الدعم لمستحقيه؟ و أنا بدورى أسأل و من قال أن الدعم لا يصل إلى مستحقيه و غير مستحقيه - فى غير أوقات الأزمات- ، من قال أن رغيف الخبز المدعم غير متاح للقادر و لغير القادر على حد سواء ، من قال أن اسطوانة البوتوجاز أو لتر البنزين غير متاح للجميع ، و أكرر فى غير أوقات الأزمات ، لأن فى أوقات الأزمات – وهذه مشكلة أخرى مضحكة سأتناولها لاحقاً- فإن القادر و غير القادر على حد سواء يعانى الأمرين من أجل الحصول على السلع المدعومة التى يتم تهريبها على مدار الساعة طوال العام سواء داخل البلاد أو خارجها. السادة المسئولين الحاليين و السابقين و القادمين غير قادرين على استيعاب و رؤية حقيقة بسيطة و هى أن الخير عندنا فى مصر كثير الحمد لله و أن صنبور الدعم مفتوح على أخره لينهل منه من يشاء دون ضابط ، و بالتالى فإن السؤال الذى ينبغى أن نطرحه هو كيف نضمن عدم تسرب الدعم لغير مستحقيه لأن هذا هو جوهر المشكلة. الفارق كبير بين الحالتين ، ففى الحالة الأولى الخاصة بتوصيل الدعم لمستحقيه و التى تفترض على غير الحقيقة أن الدعم لا يصل إليهم أصلاً ، نصطدم بعدة اشكاليات بدءأً من تعريف من هو غير القادر الذى يستحق الدعم ، ثم إحصاؤهم و تحديدهم لاستهدافهم و هذه مشكلة المشاكل لعدم وجود قاعدة بيانات فضلاً عن - و هذا هو الأهم- أن رقعة الفقر و حدته تتسع و تزداد بشكل مضطرد عام بعد عام ، بدليل أن وزارة الدعم منذ استحداثها ما زالت تبحث عن الفقراء و كأننا نعيش فى سويسرا، و أن مشروع كوبونات البوتوجاز قد تم تجميده مؤخراً نظراً لعدم استحداث قاعدة البيانات فى الشهور الأخيرة ، ثم أخيراً الجدل الأزلى أيهما أفضل الدعم النقدى أم العينى. فى حين أنه فى الحالة الثانية و هى الأقرب للمنطق و الواقع الذى نعيشه نظراً لتسرب الدعم لغير مستحقيه ، فإن التركيز على القادرين غير مستحقى الدعم و استهدافهم بحزمة سياسات وإجراءات لإقصائهم من منظومة الدعم هو أيسر و أكثر فاعلية. فعلى سبيل المثال ، بالنسبة للخبز ، هل قاطنى الأحياء الراقية و المتوسطة كمصر الجديدة و مدينة نصر و الدقى و المهندسين و المنيل و ما شابه بأنحاء الجمهورية يستحقون دعم الخبز لكى نجد مخابز للخبز المدعم بهذه الأحياء مهما بلغ رقة حال بعض سكان هذه المناطق بما فيهم حارسى العقارات؟ بالذمة أيهما أقرب للواقع و أكثر سهولة و فاعلية ، البحث عن الفقراء و إحصاؤهم فى بلد نصف تعداده تحت خط الفقر لتحديد حصة لكل أسرة حسب عدد أفرادها بواقع كذا رغيف للفرد يومياً و صرف كوبونات لهم ، أم إلغاء مخابز الخبز المدعوم بالأحياء الراقية و المتوسطة؟ بالنسبة للبنزين ، أقترح أن يُخصص بنزين 80 لسيارات الأجرة دون الملاكى ، على أن يتم طرح أنواع البنزين الأخرى بكوبونات لجميع المركبات الملاكى من وحدات تابعة لوزارة التضامن الاجتماعى ملحقة بإدارات المرور عند الترخيص وفق حصة محددة ثابتة للجميع. و المقصود هنا بالحصة الثابتة هو مبلغ معين ثابت للدعم تقدمه الدولة بغض النظر عن نوع البنزين – مثلاً ألف جنيه سنوياً لمالك السيارة لأى نوع من أنواع البنزين- على أن يترجم هذا الدعم إلى حصة عينية تصرف بكوبونات حسب مقدار الدعم الموجود فى كل نوع من أنواع البنزين. و من لا تكفيه تلك الحصة التى تصرف بكوبونات ، فعليه أن يحصل على ما يحتاجه من بنزين إضافى بسعره الاقتصادى بمحطات الوقود. و يمكن تطوير هذا النظام لاحقاً بعد استحداث قاعدة بيانات دقيقة بحيث يستفيد من يمتلك أكثر من سيارة من نظام الكوبونات لسيارة واحدة فقط ، و ان يتم تطبيق هذا النظام على مستوى الأسرة و ليس الفرد ، فالزوج و الزوجة و الأبناء و الأسرة بأكملها لها أن تحصل على كوبونات البنزين المدعمة لسيارة واحدة فقط. لنا أن نتخيل أثر هذا على مجمل استهلاك الوقود و على التكدس المرورى بالشوارع فضلاً عن الأثر البيئى لانخفاض انبعاثات غاز ثانى أكسيد الكربون ، ناهيك عن زيادة حصيلة الموارد المالية للدولة نتيجة حجب الدعم عن القادرين. يا سادة أبحثوا عن القادرين الذين بستفيدون من الدعم دون وجه حق لأن هذه هى المشكلة الحقيقية بدلاً من أن تقضوا حياتكم كلها بحثاً عن الفقراء فى بلد الموظف العام فيه تجوز عليه أموال الزكاة و الصدقة! أما بخصوص أزمة المنتجات البترولية المزمنة و المستعصية و التى تستحوذ على جانب كبير من دعم المنتجات البترولية و التى تبلغ نحو 95 مليار جنيه فى الموازنة الحالية ، فجانب كبير من المنتجات البترولية المدعمة يتم تهريبها سواء داخل البلاد أو خارجها. فالبوتوجاز مثلاً يذهب لقمائن الطوب و مزارع الدواجن ، بالإضافة إلى بيعه لمستودعات بوتوجاز غير مرخصة لكى تقوم بدورها بالبيع للمواطنين بأسعار أعلى. و نفس الشيء بالنسبة للسولار و البنزين و اللذان يتم بيعهما لمحطات وقود غير مرخصة ، بالإضافة إلى تهريب السولار و بيعه كوقود للسفن ، و البنزين الذى يتم بيعه لشركات تقوم بإضافة مواد كيماوية لانتاج منظفات و مذيبات يتم تصديرها للخارج ، فضلاً عن عمليات التهريب خارج الحدود المصرية لبعض الدول المجاورة. و إزاء كل هذه الأنماط الخاصة بتسريب الدعم و التى لا تنقطع على مدار العام ، فإننا مع ذلك نقف مكتوفى الأيدى مكتفين بالمطالبة بتشديد الرقابة على الأسواق لمنع تسرب الدعم ، و تتشتت المسئولية بين وزارات الدولة و أجهزتها المختلفة ما بين وزارات البترول و التضامن الاجتماعى و الداخلية (مباحث التموين) فضلاً عن إقحام السادة المحافظين فى حكاية تشديد الرقابة على الأسواق! بالله عليكم ، كيف تقوم الحكومة بتدعيم سلعة كالبوتوجاز مثلاً و تعانى أصلاً من عدم القدرة على استمرار تحملها الدعم بهذا الشكل حيث تزيد تكلفة الاسطوانة عن خمسون جنيه ، ثم تقوم بعد ذلك بتسليم الدعم أى السلع المدعومة للقطاع الخاص- الهادف بطبيعته للربح- كمصانع تعبئة البوتوجاز و مستودعات البوتوجاز الخاصة! فهذان نقيضان لا يجتمعان أبداً: الدعم و القطاع الخاص. الحكومة التى تتحمل الدعم و تعانى منه هى المنوطة بتوصيل الدعم بنفسها لمستحقيه و ليس بتسليمه للقطاع الخاص لكى تقوم بعد ذلك بتشديد الرقابة على الأسواق بعد أن سربت هى الدعم بنفسها. قيام الحكومة بتسليم الدعم للقطاع الخاص لتوزيعه يُعد شكل من أشكال التواطؤ. شركة بتروجاس هى المنوطة بهذا الدور أى التعبئة و التوزيع بالإضافة إلى شركة بوتاجاسكو ، و يمكن إلحاق العمالة بمصانع التعبئة الخاصة و المستودعات الخاصة كعمالة بعقود مؤقتة للعمل بتلك الشركات ، مع تعديل أسعار البوتوجاز ليعكس الواقع المصرى- و ليس واقع أسعار البوتوجاز العالمية- لتبلغ سعر الاسطوانة خمسة جنيهات بمستودعات الشركة على سبيل المثال و ستة جنيهات تسليم المنازل. و يمكن دراسة إمكانية عدم بيع اسطوانات البوتوجاز بالمستودعات و أن يقتصر الأمر على التوصيل للمنازل و المحال التجارية لإحكام السيطرة و لضمان عدم تسريب الاسطونات لغير الأغراض المخصصة لها. نفس الشئ بالنسبة للبنزين المدعم و السولار. كذلك ، يمكن دراسة إمكانية قيام قطاع البترول بتوفير المنتجات البترولية على أن تتولى وزارة التضامن الاجتماعى عملية التوزيع للبوتوجاز و السولار و بنزين 80 و ذلك بنقل تبعية مستودعات البوتوجاز الخاصة و مضخات السولار و بنزين 80 لكى تدار بواسطة وزارة التضامن الاجتماعى مع استمرار حصول أصحاب تلك المستودعات و محطات البنزين الخاصة على فئات التوزيع المقررة لتلك المنتجات نظير استخدام مستودعات البوتوجاز و مضخات السولار و البنزين 80 و لضمان عدم إلحاق أضرار بهم. مطلوب إصدار مرسوم - من المجلس الأعلى للقوات المسلحة باعتباره القائم بإدارة شئون البلاد حالياً – بحظر اقتراب القطاع الخاص من التعامل فى السلع المدعومة بأى شكل من أشكال التعامل. هذا مبدأ هام لابد من أرساؤه ، لا يجوز مطلقاً إقحام القطاع الخاص الهادف للربح فى التعامل فى السلع المدعومة. و إذا كانت الحكومة تحتاج إلى أى مساندة فى مجال السلع و الخدمات المدعومة ، فالجمعيات الأهلية و المنظمات الغير حكومية الغير هادفة للربح هى الأولى بالتعامل فى هذا المجال و ليس القطاع الخاص بطبيعة الحال. و من ناحية أخرى ، فإنه من المتعارف عليه أن إحلال الغاز الطبيعى محل المنتجات البترولية – و هو موضع اهتمام وزارة البترول- سيخفف من أعباء دعم المنتجات البترولية. و فى هذا الصدد، أقترح أن تشارك القوات المسلحة من خلال جهاز مشروعات الخدمة الوطنية فى تنفيذ مشروعات توصيل الغاز الطبيعى لمدن و محافظات الجمهورية و ذلك للإسراع فى تنفيذ تلك المشروعات من ناحية ، و لخفض التكاليف من ناحية أخرى. كان أحرى بالحكومة أن تشارك نفسها فى هذا المشروع القومى ، بدلاً من مشاركة القطاع الخاص ، خاصة و أن تجربة مشاركة القطاع الخاص فى تلك المشروعات – و التى لم يكن لها أى مبرر- أظهرت سلبيات عديدة لا يتسع المقام لسردها. و أخيراً ، تتجه النية لرفع دعم الطاقة عن الصناعات كثيفة الإستهلاك للطاقة (كالحديد و الأسمنت و الأسمدة و الألومونيوم) و هو اتجاه حميد طالما نادينا به. و فى هذا الصدد ، تجدر الإشارة إلى أن تلك الصناعات تحصل على دعم أخر مستتر من قطاع الكهرباء و الذى يستحوذ على حوالى 55% من استهلاك الغاز بالسوق المحلى ، حيث تبلغ تعريفة الكهرباء لتلك الصناعات 21.7 قرش/ك.و.س. ، كما تبلغ 15.9 قرش/ك.و.س. لمصانع السيراميك و البورسيلين و الزجاج المسطح. و برجع السبب فى هذا إلى أن تعريفة الكهرباء محسوبة على أساس أن تكلفة الغاز الطبيعى و هو السعر الذى تبيع به وزارة البترول الغاز لوزارة الكهرباء يبلغ 1.25 دولار لكل مليون وحدة حرارة بريطانية ، و ذلك على خلاف التكلفة الحقيقية لإنتاج و نقل الغاز الطبيعى. مطلوب إظهار التكلفة الحقيقية لإنتاج و نقل الغاز الطبيعى و التى يجب أن تشمل متوسط سعر شراء حصص الشركاء الأجانب والتى تم زيادة معظمها إلى نحو 5 دولار مضروباً فى متوسط أنصبة الشركاء الأجانب فى الحقول مضافاً إليها كل من مصاريف تشغيل و صيانة الشبكة القومية ، بالإضافة إلى الضرائب التى تدفعها هيئة البترول/الشركة القابضة للغاز للخزانة العامة سواء عن نفسها أو عن أرباح الشركاء الأجانب بالإضافة إلى قيمة الإتاوة المستحقة للدولة التى تدفعها هيئة البترول و التى تعادل قيمة 10 % من إجمالى الإنتاج المحقق من كل منطقة إمتياز. إن عدم إظهار الرقم الحقيقى لتكلفة الغاز الطبيعى على النحو المشار إليه عاليه يترتب عليه خسائر فادحة على عدة مسارات ، سواء على صعيد أسعار تصدير الغاز أو على صعيد أسعار بيع الغاز و الكهرباء للصناعات كثيفة استهلاك الطاقة و التى تحصل على دعم مضاعف(دعم غاز و دعم كهرباء مستتر) رغم كونها ملكية خاصة و تحقق أرباح طائلة ، فمثلاً يبلغ متوسط سعر بيع الأسمنت بالسوق المحلى نحو 500 جنيه للطن فى حين تبلغ تكلفة إنتاج الطن حوالى 200 جنيه! أرجو أن يتعامل السادة المسئولين مع هذه المقترحات بالجدية اللازمة التى تقتضيها دقة و حساسية المرحلة التى تمر بها البلاد و ضخامة الموارد المالية المخصصة للدعم و التى تزداد باضطراد كل عام ، و ذلك بدلاً من السعى للحصول على مساعدات مالية من دول الخليج. و الله ولى التوفيق. خبير اقتصاديات البترول