أحيانا يحمل العقل التأمرى الذى نفكر به أحيانًا تساؤلات خبيثة.. ليس لها إجابات _غير تآمرية _ مقنعه بالقدر الكافى.. أحد هذه التساؤلات هو: بعد الخيبات الكبرى التى منيت بها المنطقة العربية على يد (الدولة الوطنية) وبعد مرور مائة عام تقريبًا على إلغاء الخلافة وتقسيم العالم العربى ألم يكن هناك جهة أنسب من تنظيم الدولة (داعش ) لتذكرنا بحاجاتنا الماسة إلى رمز يجمعنا ومظلة روحية وسياسية واسعة تظللنا .. يقول لى العقل التأمرى.. إن خروج هذا التنظيم فجأة فى هذا التوقيت وهو يحمل (فكرة الخلافة )على الرؤوس المقطوعة والأجساد المحروقة هو فقط ليقطع الطريق على (أصحاب الحق والجدارة) فى الحديث عن ضرورة الرابطة الإسلامية (الخلافة) كجامع روحى وحضارى يجمع كل الأعراق والطوائف كما كانت الأمة دائما عبر كل تاريخها الطويل من يوم أن جاء الإسلام وجعل من العرب أمة.. يقول لنا التاريخ إن الأقليات الدينية فى كل العالم.. لم تر تسامحًا واستقرارًا كما رأته فى ظل الحضارة الإسلامية وتحت حكم (نظام الخلافة الإسلامية) وقد أجمع المؤرخون الغربيون على أن (المسلمين الأولين فى زمن الخلفاء لم يقتصروا فى معاملة الأقليات الدينية على مجرد الاحترام بل فوضوا إليهم كثيراً من الأعمال الجسام ورقوهم إلى مناصب الدولة) و كما قال المؤرخ والمفكر الإنجليزى هربرت ويلز فى كتابه (معالم تاريخ الإنسانية) عن الحضارة الإسلامية وقت الخلاقة ( إنها أسست فى العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم وإنها لتنفخ فى الناس روح الكرم والسماحة كما أنها إنسانية السمة ممكنة التنفيذ فإنها خلقت جماعة إنسانية يقل ما فيها مما يغمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعى عما فى أية جماعة أخرى سبقتها.. الإسلام مليء بروح الرفق والسماحة والأخوة)على فكرة ويلز(1866-1946م) هو مؤلف الرواية الشهيرة (ألة الزمن ).. دعونا نمد الخط التأمرى على استقامته لنقول إن الحرب المسعورة الآن على التيار السياسى الإسلامى لها علاقة بالظهور الكبير المفاجئ لتنظيم (داعش ) تغليبًا للصورة الخاطئة.. وتغييبًا للصورة الصحيحة.. والمعروف أن فكرة الخلافة الإسلامية فى العمق العميق لأدبيات للتيار السياسى الإسلامى .. لم يكن عبد الرازق السنهورى باشا غائبًا عن الواقع حين اختار موضوع رسالته عن الدكتوراه لتكون عن (الخلافة الإسلامية) وهو رجل الدولة العظيم الذى كان يكتب رسالة دكتوراة للمستقبل وليس نعيًا وتأبينًا لماضى مضى وانقضى.. الرجل تنسب إليه _تقريبًا_كل الدساتير العربية فى الدولة الوطنية الحديثة .. المرحوم ج.ح. عبد الناصر أشرف بنفسه على ضربه بالأحذية حتى غاب وعيه فى الحادثة الشهيرة بمجلس الدولة (29/3/1954م) .. ولم يكن أمير شعراء العربية (الكردى) غفلانًا وعبيطًا حين قال: الهند وآلهة ومصر حزينة** تبكى عليك بمدمع سحاح والشام تسأل والعراق وفارس** أمحا من الأرض الخلافة ماح.. فى قصيدت الشهيرة عن الخلافة الإسلامية. ....... لم أجد أنسب من رسالة الدكتور السنهورى للحديث عن فكرة (الخلافة الإسلامية) فى الذكرى الأليمة لإلغائها فى 3 مارس وكنت قد كتبت وتحدثت عن هذه الرسالة كثيرًا وأيضًا عن العلامة السنهورى نفسه الذى مثل صراعه مع المرحوم ج.ح.عبد الناصر حول (النظام السياسى الديمقراطي) بعد ثورة 23 يوليو.. أحرج لحظة فى تاريخ مصر الحديث وحتى يومنا هذا.. وسيظل المصريون فريقين.. فريق يقف خلف (العلامة أبو الدساتير العربية العالم والمفكر ورجل الدولة الأبرز) يطالب وينشد النظام السياسى الديمقراطى وفريق يقف خلف (البكباشى ج.ح.عبد الناصر أبو الهزائم العربية ورمز انحطاط الدولة والإنسان العربى) . وسيكون على مصر وشعبها دفع الثمن غاليًا جراء هذا الاختيار.. رسالة الدكتور السنهورى أشرف عليها أستاذ فرنسي(أدوارد لامبير) نصحه فى البداية بالابتعاد عن هذا الموضوع لحساسيته فى العقلية الأوروبية خاصة بعد الانتصار الذى تحقق فى الحرب العالمية الأولى 1918 والذى أدى إلى الإطاحة بالخلافة العثمانية وتوزيع ممتلكاتها على دول الحلفاء المنتصرين وفى مقدمتهم فرنسا. ..إلا أن السنهورى ولثقته الكاملة فى( مبادئ الفقه الإسلامي) وتفوقه على الفقه الأوروبي) فى مجال النظم القانونية والسياسية والاجتماعية أصر على أن يكون موضوعه للدكتوراة هو (الخلافة الإسلامية) .. ذلك أنه كان يؤمن إيمانًا قاطعًا بضرورة إعادة الخلافة فى صورة(منظمة دولية)فى المستقبل(تحمل راية الإسلام وتخلد مبادئه و نظمه وتحمى وحدة أمته ومستقبلها وتمكنها من القيام بدورها فى المشاركة فى مستقبل العالم كأمه عظيمة خالدة موحدة). فى مقدمة الكتاب يشير العلامة السنهورى إلى أنها المرة الثانية التى يجد العالم الإسلامى نفسه دون خلافة لأن الجمهورية التركية أعلنت أنها عاجزة عن تحمل مسئوليات الإمبراطورية العثمانية منذ عدة قرون.. (المرة الأولى كانت بعد هجوم التتار على الخلافة العباسية فى بغداد) ثم يشير فى موضع آخر إلى أن موضوع بحثه ليس الإسلام كدين وعقيدة.. إنما بحثه ينصب على الشريعة باعتبارها علمًا وثقافة قانونية مليئة بالنظريات التى تثرى الفقه القانونى فى العالم كله.. موضحًا أنه كمسلم( ملتزم بإخلاص شديد واحترام عميق للدين الإسلامى).. إثراء (الشريعة) للفقه القانونى فى العالم كله أشار إليه الأستاذ الفرنسى قائلاً(دراسة السنهورى قدمت لمعهد القانون المقارن كتابًا يفخر به فى مجال الدراسات المقارنة كما قدمت لعلم القانون المقارن والبحوث القانونية بصفة عامة أكبر خدمة علمية بإبراز مبادىء الشريعة الإسلامية الأصيلة فيما يتعلق بنظام الدولة وأصول الحكم على حقيقتها التى يجهلها العلماء الأوربيون أو يتجاهلونها نتيجة المحاذير السياسية ورواسب التعصب المنتسبة إلى المسيحية وهى فى حقيقتها مظهر من مظاهر الأطماع الاستعمارية، كتاب( الخلافة) الذى قام على ترجمته وتحقيقه المرحوم الدكتور توفيق الشاوى والسيدة حرمة الدكتورة نادية السنهورى الابنة الوحيدة للعلامة عبد الرازق السنهورى صدر فى كتاب عام 2001م . يخلص السنهورى فى دراسته الرائعة إلى أن : *مبدأ الفصل بين السلطات هو أساس نظام الحكم الإسلامى خاصة ما يتعلق بالسلطة التشريعية التى يجب أن تكون مستقلة استقلالاً تاماً عن( الخليفة). *إجماع الأمة هو مصدر التشريع الإسلامى وأن (الأمة )هى التى تعبر عن الإرادة الإلهية بإجماعها وليس (الخليفة) أو الحاكم بسلطته. *سيادة الأمة تؤدى بالضرورة إلى سيادة السلطة التشريعية ويجب ألا يملكها فرد مهما تكن مكانته خليفة كان أو أميراً أو ملكًا أو حاكماً فهى لله تعالى وهو سبحانه فوضها للأمة فى مجموعها والتى يجب أن يرتبط بها(الإجماع) فى شكله الصحيح. هذا الكلام العلمى الدقيق الذى أشرف على إنتاجه عالم فرنسى كبير وصف د. السنهورى بأنه (عالم مسلم ناشئ فذ) وأكد فائدة الكتاب للقراء العرب فى أنه سيوضح الفرق بين المبادئ الإسلامية التى تقوم عليها فكرة الخلافة ونظام الحكم.. وبين الممارسات التاريخية الخاطئة التى ابتعدت عن تلك المبادئ فى بعض الأوقات.. وفوق ذلك يستخلص من الأصول النظرية والتجارب التاريخية والواقع العصرى للعالم الإسلامى خطة جديدة لإعادة بناء الخلافة فى المستقبل فى صورة (منظمة دوليه إسلامية).. ..
............. فقلت له لا تبكى إنما ** نحاول مجدا أو نموت فنعذرا