العدالة ليست قرارات ولا مواقع يتم تنصيبها من قبل أي سلطة ، وإنما العدالة في جوهرها شفافية ونزاهة وتراث من الثقة في الحيدة ، وعيون عمياء عن أشخاص المتقاضين أو المختصمين ، لا فرق فيها بين خفير ووزير ، مواطن ورئيس ، العدالة تراكم في الخبرة التي تعزز الشفافية وترسخ الموثوقية عند المجتمع تجاه المؤسسات القائمة على تطبيق القانون وحماية الحق ، وبالتالي عندما تصدر قرارات أو مواقف من بعض القائمين على تلك المؤسسات وهي لا تراعي هذه الشفافية والثقة والعين العمياء فإن هذا يخدش الثقة في العدالة أو حتى يسقطها مع الوقت ، ويضعف هيبة مؤسسات العدالة وينتهي بخسارة المجتمع لدورها وقيمتها بالغة الأهمية . أقول هذا الكلام بمناسبة تكرار قرارات مفاجئة وغير مبررة من وجهة نظر القطاع الأوسع من المواطنين بحظر النشر في قضايا عامة تشغل بال الرأي العام ، وقد استفحلت تلك الظاهرة مؤخرا ، لدرجة أنه خلال شهرين ونيف من العام الجديد فقط صدرت أربع قرارات حظر النشر في قضايا ، الملمح الأساس فيها أن أحد طرفيها هم ضباط شرطة متهمون بجريمة قتل أو متورطون بوجه أو بآخر ، وكان الرأي العام قد صدم قبل أسابيع بصدور قرار السيد النائب العام بحظر النشر في قضية مقتل الناشطة السياسية شيماء الصباغ بالرصاص في مظاهرة صغيرة بميدان طلعت حرب ، وكانت التحقيقات غير محظور النشر فيها منذ البداية عندما صوبت الاتهامات في اتجاهات مبعثرة ثم نشرت التحقيقات باستفاضة بعد توجيه الاتهامات إلى قيادي حزبي معروف وتناولت الصحف والمواقع والفضائيات باستفاضة الاتهامات والتحقيقات معه وحول القضية طوال قرابة أسبوعين ، دون أن يلجأ النائب العام لحظر النشر في القضية ، حتى إذا تم تبرئة القيادي الحزبي وأخذت التحقيقات مجرى آخر ووجهت الاتهامات إلى ضابط مقنع بالقوة التي قامت بفض المظاهرة ، قرر النائب العام حظر النشر مباشرة ، وهو ما جعل الناس في حيرة ، هل التحقيقات تنشر إذا كانت مع قيادي حزبي أو مواطن عادي ، ولكنها تحظر إذا كانت مع ضابط شرطة ، فكيف إذا كانت القضية التي تشغل الرأي العام المتهم فيها وزير أو حتى رئيس الجمهورية ، ما هو القرار الذي يمكن صدوره إذن في هذه الحالية . أمس أيضا ، قرر النائب العام حظر النشر في قضية مقتل المحامي الشاب كريم حمدي على يد ضباط بالأمن الوطني تحت التعذيب أثناء التحقيق معه في قسم شرطة المطرية ، وقرار حظر النشر صدر بعد ساعات قليلة من إعلان وفاة المحامي وتوجيه النيابة الاتهام إلى اثنين من الضباط ، وهو ما جعل الناس تتساءل أيضا عن سبب سرعة هذا القرار ، وهل هناك مشكلة في أن يتهم ضابط شرطة أو موظف عام بارتكاب خطأ أو حتى جريمة ، هل هي من أسرار الدولة العليا ، لماذا يتم حجب القضية ومجرياتها عن الرأي العام ، لماذا تمنع جميع وسائل الإعلام ، صحف وقنوات ومواقع الكترونية ، من النشر في الموضوع ، هل هناك ما تخاف منه الدولة ، أو تخاف منه مؤسسة العدالة ، واللافت للنظر في جميع القضايا التي تم حظر النشر فيها منذ حوالي ستة أشهر أنه لم يعلن أي نتيجة للتحقيقات فيها أبدا ولا يعرف الرأي العام أي شيء عنها حتى الآن ، وما زال حظر النشر فيها ساريا ولم يتم إلغاؤه . من حق النيابة العامة أن تطلب من الرأي العام الثقة بنزاهتها ووطنيتها وشفافيتها وحيدتها ، ولكن أيضا من حق الإعلام المصري على النيابة أن تثق في نزاهته ووطنيته وشفافيته وأنه ليس أقل منها حرصا على الحقيقة ، وفي ظل توالي الأخطاء التي يرتكبها جهاز الشرطة والاندفاع السريع من كافة أجهزة الدولة لحجب مجرى التحقيق أو نتائجه معهم فيها عن الرأي العام فإن الأمر سيتعاظم مستقبلا ويمثل إحراجا متزايدا للنيابة العامة ، فإما أن تقرر حظر النشر كقاعدة أساسية لأي تحقيقات تجريها مع أي مواطن ، أيا كانت صفتها أو موضوعها أو أطرافها إلا بإذن خاص ، وإما أن تطلق حق النشر باعتباره حق المجتمع في المعرفة وحق المواطن في أن يشعر بأنه يملك حرمة وكرامة وحقوقا متساوية مع أي مسؤول ، ضابط شرطة أو وزير أو محافظ .