الحالة الجدلية التي أعقبت تصريحات أردوغان في القاهرة بشأن العلمانية وتعريفها وفقاً لرؤيته أنبأت عن تباين واضح بين المدارس الفكرية المصرية، ليس في الاختلاف التعريفي الطبيعي، ولكن في طريقة فهم ما قاله الرجل على النحو الذي أراد، كما كشفت عن أننا لدينا مشكلة حقيقية في التعامل مع النصوص الدستورية والقانونية والمفاهيم الحادثة؛ فبعضنا يهمل التعاطي التأصيلي معها وفهمها مثلما أرادها أصحابها، والبعض يقف عند حدودها التعريفية ولا يغادرها إلى إمكانية التعامل معها من منطلق براجماتي. وللتوضيح أقول إن في شرقنا العربي بل وفي العالم كله أحياناً، من يفسر النص هو صاحب السلطة ومن بيده القوة؛ وإن كنت كذلك لا يضيرك كثيراً وجود نص لا مثيل له لا في كتاب ولا سنة يمكنك أن تعيد تعريفه من جديد وفقاً لقدرتك على تغييره مفاهيمياً لدى الناس، وخذ مثلاً مصطلح العلمانية الفضفاض والذي هو تعريف بشري يمكن أن تأخذه ذات اليمين وذات الشمال.. نعم، هناك تعريف لديه واضح يعود إلى دائرة المعارف البريطانية ويعني تلقائياً فصل الدين عن الحياة، لكن انظر كيف أمكن للأتاتوركيين أن يزايدوا على المصطلح فيجعلونه محارباً حتى للشعائر التي لا ترفضها العلمانية الأصيلة (التي تريد فصل الدين لا إلغائه بالكلية حسب فهم دهاقنتها) وبين الأردوغانية التي حاولت أن تنحى به باتجاه الإسلام ذاته أكثر فجعلت الدولة العلمانية هي التي تقف على مسافة واحدة بين كافة الأديان ولا تفرق بينها.. كلاهما نعترف أنه خطأ، غير أن الأخير يحاول متدينو تركيا أن يزحزحوه باتجاه "سيادة القانون" على الجميع، أي باتجاه المثالية في تطبيق القانون على المسلم وغيره كما في مثال شريح القاضي عندما وضع الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه على قدم المساواة في القضاء مع يهودي، ورفض إذ ذاك شهادة الحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة.. أعود وأكرر إن كليها خطأ في التعريف، وفي مصطلحاتنا الأصيلة والمنضبطة غنية عن أي مصطلح حادث سيء السمعة والمنشأ والصيت، ويستخدم في غالب الأحوال ضدنا، ولسنا في حاجة إلى استجلاب مصائب غيرنا، غير أن من المهم قراءة كل مصطلح في سياقه، والانتباه دوماً إلى أن صاحب القوة والسلطان هو من يستطيع أن يفسر النص على هواه، فمدنية الدولة على سبيل المثال في المقابل قابل بعضنا تمريرها ببساطة فيما كان أصحاب السلطان والقوة يرنون إلى تمريرها كمرادفة للعلمانية فانتبه إليهم آخرون وتوقفوا عندها كثيراً رغم إمكانية التعايش مع المصطلح نفسه في سياق آخر سواء أكان لفظياً أو حتى عرفياً كالمدنية مقابل الفوضوية أو مقابل العسكرية أو ما نحوه بل حتى مقابل مجتمعات تخالف مجتمع المدينة المنورة! درجنا على أن المنتصر هو من يكتب التاريخ ووجدنا أن من يعرف المصطلح المبهم هو صاحب السلطان، وهو لا يتورع عن تفسير الإسلام ذاته وفقاً لنظرة شيفونية إقصائية؛ فلا يعرف فيها إلا "أنتم أعلم بأمور دنياكم" كدليل في نظره القاصر على فصله عن الحياة! والخلاصة إذن أن المواجهة لمصطلح مريب عليه أولاً أن يحدد موضعه من القدرة على تفسيره قبل أن ينبري لدحضه أو احتوائه.