يشعر البعض بالإحباط مما يجري والأكثر من الإحباط أن ينصرف الناس العاديون – من غير النخبة – إلى حال سبيلهم وينفصموا عن شئون الدولة وقضاياها كما كان الحال في عهد نظام مبارك. طوال الفترة الماضية شغلتهم النخبة بالجدل البيزنطي حول العلاقة بين الدين والدولة، وهي مسألة لا تنقص في تعقيداتها عن مسألة الدجاجة جاءت أولا أم البيضة. ولأنها معقدة لم تحل طوال 200 سنة، أي منذ أسس محمد علي الدولة المصرية الحديثة. وفي ظل هذا الشغل الشاغل الذي أشعلته برامج التوك شو وظلت تصب عليه البنزين، ساءت الحياة اليومية مع استمرار الإنهاك الاقتصادي والأوضاع الأمنية غير المستقرة، ولا يفوت يوم دون أن تخسر البورصة المليارات. ازدادت مهمة الحصول على رغيف الخبز صعوبة بالنسبة لشريحة مهمة من الشعب المصري. ساءت الخدمات إلى وضع غير مسبوق.. قمامة في الشوارع.. موظفون عموميون لا يجدون حلا سوى المزيد من الرشوة والفساد. من جانبه استفاد المجلس العسكري من الحالة المتجمدة.. حالة الفراغ المؤسساتي. فلم يقدم جدولا زمنيا واضحا لانتقال السلطة. يتحدث عن خارطة واضحة كما جاء على لسان الفريق سامي عنان في لقائه مع القوى السياسية قبل يومين. لكننا في الواقع لا نرى تضاريس لتلك الخارطة سوى ما قاله: الانتخابات.. الدستور.. الرئاسة. لكن متى؟.. كله غامض وكله في علم الغيب! زاد الغموض مع استمرار الخلاف حول قانون الانتخابات. وزاد الطين بلة تصريح رئيس اللجنة العامة للانتخابات بأن انتخابات مجلس الشورى في يناير القادم. بما يعني أن أول اجتماع مشترك للمجلسين سيكون في مارس، وهذا يعني بدوره أن البلد ستظل بلا حكومة منتخبة إلى ما بعد هذا التاريخ وبدون رئيس منتخب إلى نهاية السنة القادمة أو أوائل السنة التي بعدها. فالبدء في تشكيل لجنة تأسيسية للدستور لن يتم قبل الاجتماع المشترك، وبعد ذلك أضف سنة أخرى من فضلك. هل يستفيد المجلس العسكري من الخلافات المستمرة التي يبدو أنه يديرها كمايسترو ماهر ومحترف؟!.. لقد استهلك شهورا من الفترة الانتقالية في الجدل والاستقطاب بين قوى الثورة حول الدولة الدينية والمدنية، واستغلها في توسيع قانون الطوارئ وتقديمه هدية للشرطة المتمردة! قبل فترة نشرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية تقريرا بعنوان: "جنرالات مصر قد يحافظون على دور كبير في الحكم". وفيه نسبت إلى بعض قيادات المجلس العسكري – دون تسميتهم – تفكيرهم جديا في أن يلعب الجيش دورا مماثلا للدور الذي يلعبه الجيش التركي. بحيث يسلم الحكومة إلى حزب مدني منتخب، ويحتفظ بحقه في إدارة شئونه والتمتع بحصانة تؤهله لدور الضامن والحامي للدستور. وقال أحدهم "مصر محتاجة لحماية ديمقراطيتها من الإسلاميين. نحن نعرف أن هذه الجماعة (الإخوان) لا تفكر بطريقة ديمقراطية". السطور السابقة تشرح ما يجري خلف ستار الاستقطاب وإثارة المخاوف المستمرة بين القوى السياسية بشأن المستقبل. رجب طيب أردوغان بمهارة سياسية لمس الأخطار التي تحيط بمستقبل الحكم المدني ككل – بمعناه المعاكس لحكم العسكر – فقدم فهما مختلفا وبراقا للتواقين إلى الحل. لكن البعض هنا وهناك لم يفهم أنه في الواقع يعرض لنشا لإنقاذ سفينتنا من بحر تتلاطمه الأمواج والأعاصير. قدم أردوغان نمودجا مقبولا للتعايش بين الدين والدولة، أو لنقل نموذجا تدريجيا مقبولا حتى نتخلص من المرحلة الانتقالية ومن حكم العسكر في أقرب وقت ممكن، وفي نفس الوقت يدعونا إلى الاستفادة من الأخطاء التركية في التطبيق. ولو سألتني ماذا يقصد بهذه الأخطاء، لأجبت فورا: إنه يعني ألا نقع في حفرة إسباغ الدستور وضعا مميزا للجنرالات كالذي تتحدث عنه "الواشنطن بوست". لماذا؟.. لأن حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان يقاتل من أجل التخلص من ذلك النص، وسعى إلى الحصول على نسبة في الانتخابات الأخيرة تؤهله لانجاز هذا الهدف، وقد فشل. هو الآن يحاول بطرق أخرى منها الاتفاق مع الأحزاب المعارضة، خصوصا أن حزبه ليس إسلاميا، وهو خطأ في التصور يقع فيه الكثير من بني جلدتنا العرب. فحزب العدالة عبارة عن ائتلاف بين إسلاميين من كوادر حزب الفضيلة المحظور الذي كان يتزعمه الراحل نجم الدين أربكان، والقوميين المنشقين عن الجبهة القومية، والعلمانيين المنشقين عن مجموعة من الأحزاب العلمانية. وكلاهما.. القوميون والعلمانيون لم يغيروا مواقفهم الفكرية تحت لواء أردوغان. قد يصبح التحالف الديمقراطي المعلن بين عدد من الأحزاب على رأسها الحرية والعدالة (الإخواني) والوفد، نسخة مصرية لائتلاف الإسلاميين والقوميين والعلمانيين في "العدالة والتنمية". يستطيع ذلك التحالف جذب مختلف القوى والحركات إليه مشكلا جبهة متحدة تنهي الجدل المثار عن علاقة الدولة بالدين، ومن ثم الدفع نحو انتخابات برلمانية ورئاسية فورا وإلغاء حالة الطوارئ مهما كانت المبررات وضوابط التطبيق التي تحدث عنها وزير الداخلية. [email protected]