في الأدبيات والقصص الشهيرة لسلوكيات النشالين تأتي في المقدمة دائما خطة صرف نظر الجمهور إلى واقعة مفتعلة ومثيرة وشغله بها من أجل تسهيل عملية "سرقة" الضحايا بصورة هادئة وسهلة وبدون انتباه "الجمهور" المشغول بالمعركة الساخنة التي تجري في أحد جوانب المشهد أو الشارع ، وأعتقد أن هذه هي الصورة النمطية الأكثر تعبيرا عما يحدث الآن في الساحة السياسية المصرية ، من خلال ما يمكن تسميته محاولات "نشل" الثورة وأهدافها . المصريون الآن في شوق إلى تحقق حلم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسياسية ووجود دولة القانون التي يتساوى فيها الجميع ويأمن فيها الجميع على نفسه وماله وأهله وحقوقه الوطنية بالتساوي أمام قانون محترم ومهيب ، المصريون في شوق إلى انتهاء حكم "العسكر" الذي جثم على صدر مصر طوال قرابة ستين عاما وأن تعود مصر إلى مكانتها الحضارية والثقافية والعلمية والدينية ، منارة للخير والعطاء ، المصريون يشتاقون إلى اليوم الذي يحكمون فيه أنفسهم بأنفسهم ، ويختارون حاكمهم وحكومتهم ، ويختارون القانون الذي يدير شؤونهم والدستور الذي يستظلون بمبادئه ، وبينما الجميع مهموم بتلك الأشواق ويناضل من أجل حشد الرأي العام حولها ، تفاجا "بنشال" سياسة ، سواء كان مسؤولا أو إعلاميا أو منتسبا إلى الثقافة أو الدين ، يطرح على الرأي العام قضية جديدة مفتعلة ، فيستفز قطاعا من المجتمع فينشط للرد ، فيستفز الرد وعصبيته قطاعا مقابلا فينشط للرد على الرد ، وتدور معركة سياسية وإعلامية ودينية وثقافية مفتعلة ، تشد العقول والخواطر وتشتت الأذهان وتوتر النفوس ، بينما الفريق الآخر من "النشالين" يقومون بتمرير قوانين أو سياسات أو إجراءات شديدة السلبية تعتبر نكوصا عن الثورة وأهدافها وسرقة بخفة يد وخفة ضمير لأشواق الأمة الحقيقية التي طالما انتظرتها وضحت من أجلها ، تحدث تلك السرقة أو "النشل" بينما الجمهور مشغول "لشوشته" بمتابعة المعركة الساخنة الوهمية التي افتعلها النشالون. وبعد أيام أو أسابيع تخف فيها تدريجيا جاذبية المعركة التي افتعلها النشالون ، وتهدأ نارها ويختفي شررها ، ثم تنتهي تماما وتذهب إلى غياهب النسيان من جديد ، ربما انتظارا إلى لعبة جديدة للنشالين يستدعونها من هناك إذا احتاجوا إليها ، وحينئذ يعود العقل والتأمل والتذكر إلى الجمهور الذي تم استغفاله بعد انتهاء "الهوجة" فيراجع حساباته ومصالحه السياسية والدينية والثقافية والقانونية فيجد أن "المحفظة" اتسرقت يا رجاله !!، ويجد أن الحماس الشديد الذي اندفع به في تلك المعركة كان غفلة ، وأن ما تصوره انتصارا لقضية عنده أو موقف هو خدعة سحبوه إليها لشل إرادته وتغييب وعيه وتشويش رؤيته عن ممتلكاته وحقوقه وما أفنى عمره من أجل حصده وحمايته . والنشالون مهرة بطبيعة الحال ، ويدرسون جيدا جوانب الحساسية عند الجمهور ، وما هي نقاط الاستفزاز عند كل قطاع في المجتمع ، وكيف يستنفرونها حتى تنتفخ فيها الأوداج ، فيعرفون ما هي النقاط الحساسة التي يمكن تهييج المتدينين بها ، ويعرفون النقاط الحساسة التي يمكن تهييج مشجعي الرياضة بها ويعرفون النقاط الحساسة التي يمكن تهييج البسطاء بها ، وعملية النشل في حد ذاتها ، رغم حرمتها وبشاعتها إلا أنها عملية "إبداع" بشري حقيقي يعتمد على الذكاء ، في سياق الصراع الدائم بين قوى الخير وقوى الشر ، وإذا كنا نلوم النشال على تشغيل إبداعه وعقله وملكاته في الباطل والسرقة ، فلا بد من باب العدل والأمانة أن نلوم الضحايا الذين ساهموا بكسلهم الذهني واندفاعهم العاطفي غير العقلاني وسذاجتهم أحيانا ، في تسهيل مهمة النشالين وجعلهم ينتصرون في معركة العقول . [email protected]