دعيت لحضور اللقاء الذي عقده رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان، بدار الأوبرا بالقاهرة.. تأخر اللقاء ما يزيد عن ثلاث ساعات، لازدحام أجندة أردوغان في زيارته القصيرة لمصر.. ومع ذلك تحلى الحضور بالصبر، وانتظروا كل هذه المدة، ليسعدوا بلقاء واحد من أهم الزعماء السياسيين في العالم الإسلامي. استخدم أردوغان لغة في غاية الرقة والعذوبة، تنسمنا من خلالها عبق التاريخ الجميل وعطر "اسطنبول" المحبة لمصر وللشرق .. إذ ظل الرجل ولمدة ربع ساعة هو يعدد مناقب "أم الدنيا" وفضلها على العالم، ولم ينس القول إن "مصر وتركيا يد واحدة". جاء اردوغان ومعه 200 رجل أعمال.. وهي سياسة تركية استقرت منذ عشر سنوات مضت على أن تكون ذات رسالة حضارية وإنسانية في العالم.. وعلمت بأن لتركيا استثمارات في مصر تبلغ مليار ونصف مليار دولار، أي ما يقرب من 10 مليار جنيه مصري، وان لمصر استثمارات لم تتجاوز 5 ملايين دولار. قبل زيارة أردوغان بيومين بثت قناة الجزيرة لقاءا له، قال فيه إن حادث "مرمرة" الذي وقع في مايو عام 2010، كان يكفي وحده لاشعال الحرب بين تركيا والكيان الصهيوني.. غير أن تركيا تصرفت باعتبارها دولة عظيمة وتحلت بالصبر. هذه الجملة.. نقلت إلى العالم حكمة رجل الدولة المسؤول.. ووعيه بقيمة ووزن بلده كأمة عظيمة وناهضة.. ومع ذلك فإن صبر تركيا الذي أشار إليه أردوغان.. لم يكن محض تجاهل العدوان الإسرائيلي على "مرمرة" وإنما ترجم إلى مواقف أكثر تشددا إزاء تل أبيب، حيث خفضت العلاقات الدبلوماسية إلى الدرجة الثانية.. وتم طرد السفير الاسرائيلي، وتجميد العلاقات العسكرية. صبر تركيا لم يكن أبدا إدارة الوجه الآخر ليصفع.. وإنما برد يأخذ في الاعتبار غضب الشارع التركي وكبريائه الذي اعتدي عليه الاسرائيليون. الدرس التركي يشرح للآخرين.. أنه ليس بالضرورة أن نعلن الحرب على الكيان الصهيوني كلما أساء الأدب مع أسياده المصريين.. وإنما بين الحرب والسلام الكثير من التدرج في المواقف التي تحفظ للدولة هيبتها وكرامتها بدون المس بالالتزامات الدولية. تركيا اليوم باتت في الوعي المصري العام، مصدر إلهام ليس فقط للقوى الإسلامية التي ترى في نفسها الأقرب رحما من تجربة أردوغان السياسية، وإنما أيضا للحالة المصرية في مجملها، وهي تحاول البحث عن صيغة للتعايش السلمي والديمقراطي بين القوى السياسية المشكلة للطيف السياسي الوطني. تركيا تشبه إلى حد كبير مصر.. من حيث الاستقطاب الحاد بين ما هو ديني وما هو علماني.. وإن كانت الحالة المصرية هي الأكثر إنسانية ورحمة.. إذ تظل العلمانية المصرية مراوحة عند الأطر التي صنفها عبد الوهاب المسيري رحمه الله تعالى.. أي داخل حدود العلمانية الجزئية الحذرة من التورط في صدامات فجة مع الاسلام "العقيدة".. وإن كانت لا تتورع عن الصدام مع الاسلام "الحضاري". المهم.. أن زيارة اردوغان ربما تكون البداية لعملية اطلاع واسعة للخبرة التركية من قبل المصريين جميعا اسلاميين وعلمانيين، عساها أن تنفعهم في رأب الصدع وابداع صيغة وطنية للتعايش والتعاون دون إلغاء لفضيلة التعدد والتنوع والتمايز فيما بينهم. [email protected]