نلتقى اليوم مع رائد من رواد التجديد فى الأزهر، ومن كبار علمائه، هو الشيخ محمد الأحمدى الظواهرى الذى قدم لهذا المعهد العريق الخدمات الجليلة ، وسوف نستعرض فى السطور التالية سفر نفيس للأستاذ الدكتور محمد الجوادى ، وهو أستاذ جليل عليم بأسرار هذه الفترة وهو الحجة فيها ، وصاحب المؤلفات التى تطرقت إلى كل أبواب الفكر والثقافة، وطرح من خلال هذه الكتب رؤية بانورامية شاملة للفترة شملتها دراساته، نلتقى معه اليوم فى مؤلفه "الشيخ الظواهرى والإصلاح الأزهرى" ، معتمدا على الكتابات التى سبقته، ومذاكرات الشيخ الذى قصها على ابنه فخر الدين الظواهرى ، وتوصل إلى حقائق واستنتاجات فريدة حول تاريخ هذا الرجل الذى شغل حياته بالتطوير والتجديد والإصلاح فى الأزهر، ظهر هذا معه منذ فترة مبكرة من حياته عندما واتته الجرأة ، فيعرض على الخديو عباس حلمى الثانى رؤيته حول الإصلاح فى الأزهر، ولأن هذا الخديو كان مهموماً بالتجديد ، مستشعراً أهمية الأزهر فقد زكاه لتعيينه شيخاً للمعهد الأحمدى بطنطا خلفاً لوالده الشيخ ابراهيم الذى رحل فى عام 1907، ولم يبلغ التاسعة والعشرين عاماً بعد، وهذا حال بينه وبين تعيين يتكون كتاب الجوادى من سبعة فصول تناول فيها سيرة هذا الرجل وذكر أن ينتمى لعائلة عريقة تنسب إلى "الظواهر" أى ظواهر مكة أى ضواحيها، وأن جده الشيخ ابراهيم الظواهرى عاش 135 عاماً، حج فيها 72 حجة ، وصام من الدهر مائة عام، ووالده هو الشيخ ابراهيم الظواهرى من كبار علماء الأزهر تدرج فى وظائفه حتى عين شيخاً للمعهد الأحمدى فى سنة 1894، وقد درس ابنه محمد على يديه العلوم وقرأ عليه أمهات الكتب فى الفقه والنحو والأصول والتفسير وعلوم القرآن وعلوم العربية والتاريخ والسيرة، وكان غير مواظب لحضور الدروس، بل كان يفضل تذكارها فى المنزل، لأن نظام التعليم كان لا يتشدد فى الحضور ، المهم استيعاب الطالب للعلوم ولو بقى زمناً طويلاً فى التحصيل على أن يتقدم لاختبار عسير فى كل العلوم التى ذكرناها، وفى أثناء دراسته يتعرض لأسلوب ومنهج الإمام محمد عبده فى مذكرة بعنوان "نقد للشيخ محمد عبده فيما أراه غير لائق من آراء وتصرفات"، وفيها يلوم الشيخ محمد عبده أشد اللوم لأنه قبل أن يجلس قاضياً فى المحاكم المعروفة بالمحاكم الأهلية (تفريقاً لها عن المحاكم الشرعية)، وهو يرى أن السبب فى كتابة هذه المذكرة "كان إيمانه بأن الشيخ محمد عبده ينبغى أن يكون مثلاً أعلى للعلماء فى سعة العقل والإحتفاظ بالكرامة ،والابتعاد عن الجمود ، والأخذ بالآراء الحديثة النافعة البعيدة عن مجرد التقليد، وظل الظواهرى على هذا الرأى حتى بعد أن تقدم به السن والخبرة ، وأنه بعد عشرين عاماً كتب لوزير الحقانية يخبره برأيه هذا الذى كان يراه فى حياة محمد عبده ، مكرراً اعتراضه على اعتراف القضاء بالزنا ، وبالخمر، وبالربا ...وبعدها يتقدم لإمتحان العالمية سنة1902، وكان والده شيخاً للمعهد وتتكون لجنة الامتحان ويرأسها الإمام محمد عبده ، ونتيجه لموقفه السلبق من الإمام خشى الرسوب أمامه ولكن الإمام أثنى عليه وشكر له جهوده واستيعابه للعلوم ، ويثبت المؤلف قوله فى محمد عبده : "فأنت ترى إذاً أن الشيخ محمد عبده كان رجلاً قوى الرأى ، وقوى الأخلاق ، فالبرغم مما كان بينه وبين والدى الشيخ ابراهيم الظواهرى من خلاف معروف ، فهو لم يغمطنى حقى ، ولم يرد أن يقلل من مقدار علمى".
بعد حصول الشيخ الظواهرى على شهادة العالمية آثر العمل فى المعهد الأحمدى أستاذا للنحو، ومن هذه الأستاذية فى هذا المعهد الإقليمى ينطلق كالصقر حتى يستقر فى مشيخة الأزهر شيخا له، وهو لم يعمل فى الجامع الأزهر بالقاهرة، ويثبت المؤلف خلو هذه الفترة من التعقيد البيروقراطى والروتين الذى أصاب الحياة بعد ذلك، ثم يسرد المؤلف قصة تعيينه شيخاً للمعهد الأحمدى وأسهب فيها والتقط كل الروايات فى تدوينها وإعجاب الخديو عباس بحماسه للتجديد وهو أصغر العلماء مما حدا بالخديو أن يرشحه شيخاً للمعهد الأحمدى وهو لم يتجاوز39 عاماً ، ولكن سنه حالت دون تعيينه وعين مكانه أستاذه الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوى الذى يخلفه الظواهرى بعد ذلك شيخاً للمعهد فى يناير 1914، وفى عهد السلطان فؤاد يتعرض لوشاية ينقل على أثرها إلى معهد أسيوط الدينى الحديث آنذاك ونشر الإصلاح هناك وينتشر أمره بين الخاصة والعامة ويعجب به فؤاد عند توقفه بأسيوط فى طريقه لافتتاح قناطر نجع حمادى ، وقد ظل الظواهرى بأسيوط حتى رشح هو والشيخ المراغى لمشيخة الأزهر ، فلم تم اختيار المراغى لمشيخة الأزهر سنة 1928 أعيد الظواهرى إلى مشيخة المعهد الأحمدى مستعيداً منصبه القديم .
لم يدم عهد المراغى بالمشيخة سوى عام، ويعين الظواهرى مكانه فى أكتوبر 1929، وظل فى المشيخة حتى سنة 1935، ومارس سياسة إصلاحية، ولكن عنف السياسة الحزبية ، دفع بصراع الأزهر إلى خضم المنازعات السياسية ، وانتهى الصراع السياسى والاجتماعى إلى استقطاب حاد جعلت المطالبة بإعادة الشيخ المراغى ، تتحول إلى هدف جوهرى للتظاهرات والتجمعات الأزهرية الشابة ، ويترك على إثرها المنصب ، وعاش بعدها قرابة عقد من الزمان مع علمه وحياته الدينية والصوفية فى هدوء ورضا نفسى إلى أن رحل فى 20جمادى الأولى 1364ه( 13مايو 1944).
ثم يعرج المؤلف للحديث عن جهود الشيخ ، فمنذ أن تولى الشيخ الأحمدي الظواهري مشيخة الجامع الأزهر في (7 من جمادى الأولى 1348 ه / 10 من أكتوبر 1929م) ، وتعلقت الآمال بالشيخ الجديد، الذي سبق وأعلن عن منهجه الإصلاحي من قديم في كتابه "العلم والعلماء"، وكان الإمام عند حسن الظن، فخطا خطوة موفقة في مجال إصلاح الأزهر، ولعلها أبرز هذه الخطوات لما ترتب عليها من نتائج، كان أبرزها ظهور الكليات الأزهرية التي صارت نواة الجامعة الأزهرية.
تضمن "قانون إصلاح الأزهر" الذي صدر في عهده سنة (1349ه /1930م) جعل الدراسة بالأزهر أربع سنوات للمرحلة الابتدائية، وخمس سنوات للمرحلة الثانوية، وألغى القسم العالي واستبدل به ثلاث كليات هي: كلية أصول الدين، وكلية الشريعة، وكلية اللغة العربية، ومدة الدراسة بها أربع سنوات، يمنح الطالب بعدها شهادة العالمية. وأنشأ القانون نظامًا للتخصص بعد مرحلة الدراسة بالكليات الثلاثة، على نوعين: تخصص في المهنة، ومدته عامان، ويشمل تخصص التدريس ويتبع كلية اللغة العربية، وتخصص للقضاء ويتبع كلية الشريعة، وتخصص الوعظ والإرشاد ويتبع كلية أصول الدين، ويمنح المتخرج شهادة العالمية مع إجازة التدريس أو القضاء أو الدعوة والإرشاد. وتخصص في المادة ومدته خمس سنوات، يتخصص الطالب في أي فرع من الفروع الآتية: الفقه والأصول، والتفسير والحديث، والتوحيد والمنطق، والتاريخ، والبلاغة والأدب، والنحو والصرف، ويمنح المتخرج في تخصص المادة شهادة العالمية من درجة أستاذ. نقل هذا القانون الطلاب من الدراسة بالمساجد إلى مبان متخصصة للتعليم، وتحول بنظام الحلقات الدراسية التي كانت تعقد بالأزهر إلى نظام الفصول والمحاضرات، وأصبحت كل كلية مسؤولة عن التعليم، وتتولى الإشراف على البحوث التي تتصل بعلومها، وأطلق على القسمين الابتدائي والثانوي اسم "المعاهد الدينية"، وكان هذا القانون خطوة حاسمة في سبيل القضاء على نظام الدراسة القديمة، وبداية ميلاد جامعة الأزهر. لم يكن إصلاح الإمام مقصورًا على تنظيم الكليات وتعديل المناهج العلمية، بل كانت له أياد بيضاء، فسعى إلى إصدار مجلة ثقافية تتحدث باسم الأزهر، أطلق عليها في أول الأمر "نور الإسلام" ثم تغير اسمها إلى مجلة الأزهر، وصدرت في (غرة المحرم 1349ه /29 من مايو 1930م)، وأسند رئاسة تحريرها إلى الشيخ محمد الخضر حسين، الذي تولى مشيخة الأزهر فيما بعد. ومن مآثره أنه أوفد بعثات من العلماء للدعوة إلى الإسلام ونشر مبادئه في الخارج، فبعث بوفد إلى الصين والحبشة لهذا الغرض. ويستعرض الكتاب أيضا ًدوره فى السياسة عندما اشترك فى ثورة 1919، وبعض مواقف الشيخ السياسة ، ومواقفه الشجاعة فى مجلس الشيوخ ، إنك عزيزى القارىء موسوعة شاملة عن هذا كتبها مؤرخ يمتلك أدواته بدقة .