الهجوم علي المبادئ الفوق دستورية بشكل غير موضوعي وغير محسوب قد يثير تعاطف بعض الناس معها .. و علي هذا الاساس ينبغي الحذر عند الحديث في هذا الموضوع بالذات حتي لا ينقلب السحر علي الساحر .. نحن – الرافضين لهذه المبادئ الفوق دستورية – نعلم أننا علي حق , ولكن كيف نعرض وجهة نظرنا ؟ .. بالحكمة والموعظة الحسنة وتوثيق المعلومات طبعا .. هناك معلومة منتشرة بشكل قوي علي الفيس بوك توضح ان صاحب " بدعة " المبادئ الفوق دستورية هو احد مرشحي الرئاسة وهو بالمناسبة رجل قانون .. ومصدر هذه المعلومة صحفية وناشطة يسارية , وشاعر شاب .. حيث أعلنت تلك الناشطة انهم تقابلوا مع " رجل القانون " الذي قال لهم انه سلم مجموعة من المبادئ الفوق دستورية الي المجلس العسكري لكي يحمي الدولة من سيطرة الاسلاميين , وعندما سألته الناشطة عن سر الخوف من الاسلاميين , قال لها انه لا يريد ان تتخذهم امريكا ذريعة للتدخل في شؤون مصر الداخلية , ثم أردف قائلا : هذه الوثيقة التي اقترحتها علي المجلس العسكري سوف تعطي شكل معين للدستور يستحيل تغييره الا بعد مدة تتراوح بين من 5 – 10 سنوات ,, عندها يكون النظام المصري قد استقر , وحينها سوف نترك الاسلاميين يمارسون العمل السياسي كما يحلوا لهم حتي ولو حصلوا علي أغلبية في البرلمان ! هذا الكلام يحوي جانب سياسي وجانب قانوني .. الجانب السياسي يمكن أن يرد عليه التيار الاسلامي .. اما الجانب القانوني فهو الذي يهمني هنا خاصة وانني اشعر بالخجل والاسف عندما اسمع هذه البدع الدستورية تخرج من رجل قانون ! قد يكون هذا المقال طويلا أو مليئ بالتفاصيل , ولكني أدعوك صديقي القارئ ان تضع جزء كبير من تركيزك في قراءته لأنه سيجعلك تدحض ادعاءات المطالبين بتلك المبادئ الفوق دستورية .. فالكلام الوارد فيه ليس من تأليفي , بل هو من صلب الفقه الدستوري الذي يتعلمه كل القانونيين في مصر ولكن بعضهم يتجاهله للأسف ! اتفقنا – من قبل – أن هناك مبادئ دستورية لابد ان يحتويها اي دستور في العالم , وهي المبادئ المتعلقة بالحرية والمساواة والمواطنة , بالاضافة الي شكل النظام الذي تنتهجه الدولة وغالبا ما يكون " النظام الجمهوري " .. وهذه المبادئ غير قابلة للتعديل حتي لا يأتي شخص ما مثلا ويحول النظام الجمهوري الي نظام ملكي ليتوارث العرش هو وابنائه ! .. كما وضحنا ايضا ان المبادئ الفوق دستورية هي مبادئ غير قابلة للتعديل ابدا .. و يطلق علي منع تعديل بعض المواد لقب " الحظر " ., وينقسم هذا " الحظر " الي ثلاثة اقسام كالاتي : أولا : الحظر الموضوعي وهو حظر تعديل " مواد معينة " في الدستور للأبد أو لفترة زمنية محددة رغبة في المحافظة علي نظام الحكم الذي اقيم " مثل النصوص التي تؤكد ان نظام الدولة جمهوري " .. ومن امثلة الدساتير التي طبقت " الحظر الموضوعي " , دستور الجمهورية الفرنسية الرابعة الصادر عام 1946 , ودستور الجمهورية الفرنسية الخامسة الصادر عام 1958 والدستور الايطالي الصادر عام 1947 , وجميعهم نصوا علي عدم جواز تعديل " الشكل الجمهوري للدولة " ثانيا : الحظر الزمني وهو حظر تعديل الدستور كله لمدة زمنية محددة , ويحدث هذا غالبا عند اقامة نظام سياسي جديد بعد قيام ثورة او شيئ من هذا القبيل , ويبرر الفقهاء " الحظر الزمني " بأنه اجراء احترازي للحفاظ علي النظام الجديد من " الثورة المضادة " او ما نسميه نحن الان " الفلول" ... واشهر الدساتير التي انتهجت هذا النظام كان الدستور الفرنسي الصادر عام 1791 الذي حظر تعديله لمدة اربعة سنوات , والدستور اليوناني الصادر عام 1930 الذي حظر تعديله لمدة 5 سنوات ... ثالثا : حظر تعديل الدستور في الظروف " الاستثنائية " تنص بعض الدساتير علي حظر تعديلها في الفترة التي تمر فيها الدولة بظرف استثنائي .. وقد قال الفقهاء أن " وقوع الدولة كلها او جزء منها في قبضة الاحتلال الاجنبي " هو الظرف الوحيد الذي يمكن أن يطلق عليه " ظرف استثنائي " والسبب ان ارادة الشعب في فترة الاحتلال تكون مكبلة ومن الممكن ان يتم تعديل الدستور وفقا لهوي المحتل مثلا ! ... وقد نص الدستور الفرنسي الصادر عام 1946 علي عدم جواز تعديله اثناء فترة احتلال كل او جزء من الاراضي الفرنسية ... هذه هي اشكال الحظر في الفقه الدستوري .. والآن نأتي لاهم جزء في المقال الا وهو " القيمة القانونية للنصوص التي تحظر تعديل الدستور " .. أنقسم الفقه بصدد " الحظر " الي خمسة اراء كالتالي : الرأي الاول : رفض كل انواع الحظر التي ذكرناها سابقا وقال ان النصوص التي تنص علي ذلك لا تتعدي كونها اماني ورغبات شخصية لقائلها ولا تتمتع بأي قوة الزامية لانها تتعارض مع مبدأ سيادة الأمة وحقها في تعديل دستورها وقتما تشاء من جهة ,, ومن جهة أخري فإن السلطة التأسيسية الاصلية التي قامت بوضع الدستور لا يمكن ان تقيد السلطة التأسيسية المعبرة عن إرادة الامة في المستقبل .. وعلي هذا الاساس يعتبر الحظر الزمني والحظر الموضوعي والحظر الناجم عن ظروف استثنائية باطلين بطلانا مطلقا , فالامة هي مصدر السلطات ... ومن أنصار هذا الرأي الفقيه الفرنسي جوليان لافيربير .. والدكتور عبد الحميد متولي , والدكتور محسن خليل .. الرأي الثاني : يري هذا الرأي ان الحظر الزمني والحظر الموضوعي والحظر لظروف اسثنائية مشروعين ويحملون صفة الالزام من الناحية القانونية .. ولكنهم خطرين جدا من الناحية السياسية لان هذا الحظر الابدي سيؤدي الي قيام الشعب بثورة او قيام جهة ما بانقلاب للتخلص من تلك المبادئ التي لا يجوز تعديلها والتي نطلق عليها الان اسم " المبادئ الفوق دستورية " ! .. وحجة هذا الرأي انه لا يجوز تعديل الدستور الا بالطريقة التي حددها الدستور نفسه حتي و إن تعارض ذلك مع مبدأ السيادة الشعبية ! .. ولكنهم استطردوا قائلين : لا يجوز مخالفة النصوص التي تحظر تعديل الدستور لأن هذا يعتبر انتهاكا للدستور الذي تم وضعه عن طريق جمعية تأسيسية منتخبة من " الشعب " .. قالوا "الشعب" وليس مجلس الوزراء أو المجلس العسكري ! الرأي الثالث : حاول انصار هذا الرأي أن " يمسكوا العصاية من النص " , حين رأوا أن النصوص التي تحظر تعديل الدستور صحيحة قانونيا .. ولكنهم في نفس الوقت يروا ان تلك النصوص يجوز تعديلها ! .. فبالرغم من تمتعها بالصفة القانونية الملزمة الا انه يجوز تعديلها في اي وقت شأنها شأن بقية مواد الدستور الاخري .. وبناء علي هذا الكلام " فإن القيمة الحقيقية لتلك النصوص تنحسر في كونها تمنع التعديل الا بعد روية وتفكير " .. حتي لا تأتي جهة ما وتقوم بتعديل الدستور كل خمسة دقائق " حسب الطلب " , ولكن هذا لا يمنع الشعب من تعديل دستوره ... الرأي الرابع : رائد هذا الرأي هو الفقيه الفرنسي الاستاذ جورج بيردو , وقد أتجه الي التفريق بين الحظر الموضوعي من جهة وبين الحظر الزمني والحظر الناتج عن ظروف استثنائية من جهة أخري .. وقال " بيردو " أن النصوص التي تحظر تعديل مواد معينة من الدستور للأبد مجردة من كل قيمة قانونية وباطلة بطلانا مطلقا لانها تتعارض مع سيادة الأمة .. اما الحظر الزمني والحظر الناتج عن ظروف استثنائية فقد أتجه بيردو الي صحتهما قانونا .. وبرر هذا الرأي ان حظر تعديل الدستور لمدة معينة او حظر تعديله في الظروف الاستثنائية لا يختلف – من حيث الطبيعة – عن اشتراط مرور فترة زمنية علي اقتراح تعديل الدستور بعد رفض الاقتراح سابقا .. فقد كان دستور 71 الساقط يشترط مرور سنة علي اقتراح تعديل بعض مواد الدستور اذا كانت قد طرحت للمناقشة من قبل وتم رفض تعديلها .. الرأي الخامس : أتجه هذا الرأي الي أن " هذا الحظر لا قيمة له تماما بالنسبة للسلطة التأسيسية الأصلية . ولكن ينبغي احترامه من جانب السلطة التأسيسية المنشأة " والسلطة التأسيسية الاصلية : هي الجمعية التأسيسية المنتخبة من الشعب من اجل اعداد دستور جديد اما السلطة التأسيسية المنشأة : هي تلك اللجنة التي تتولي تعديل بعض مواد الدستور مثل لجنة التعديلات الدستورية الاخيرة التي ترأسها المستشار طارق البشري .. وقال اتباع هذا الرأي ان السلطة التأسيسية الاصلية تتمتع – دوما – بأختصاص مطلق وأن اي نصوص " تفرض عليها مبادئ دستورية معينة " تعتبر باطلة بطلانا مطلقا ولا تعدو كونها مجرد اماني شخصية لا تتمتع بأي قوة ملزمة .. وهذا يدحض تماما فكرة اصدار اعلان دستوري به بعض المواد الفوق دستورية التي ينوي – البعض – فرضها فرضا علي الجمعية التأسيسية التي ستتولي اعداد دستور مصر القادم لأن هذه الفكرة غير قانونية بناء علي هذا الرأي .. كما انها غير قانونيا اصلا بناء علي استفتاء 19 مارس .. اما السلطة التأسيسة المنشأة هي سلطة أنشأها الدستور وحدد لها اختصاصاتها لذلك يجب عليها احترام الدستور .. ولا يصح ان تعدل أي مواد في الدستور الا بالطريقة التي حددها الدستور نفسه ... وبهذا نكون قد عرضنا كل الاراء الفقهية التي تناولت " المبادئ الفوق دستورية " كما رأيتم فإن أغلب الاراء اجمعت علي بطلان هذه " المبادئ الفوق دستورية " وجردوها من اية قيمة قانونية ,, حتي الاراء التي اعترفت لها بقيمة قانونية , أكدت ان تلك القيمة لا تمنع الشعب من تعديل دستوره وقتما يريد .. وهذا يؤكد ضعف تلك " المبادئ " دستوريا .. هذا طبعا بجانب ان استفتاء 19 مارس يمنع كل تلك " الابتذالات الدستورية " .. دعك طبعا من أن كل الاراء اكدت علي ان الشعب هو صاحب القرار في تعديل دستوره , ولا يوجد شيئ يسمي " توافق القوي السياسية علي بعض المبادئ " وكأن الشعب المصري هذا قطيع من الاغنام لا يعتد برأيه , ومع ذلك فإنني أطالب المحكمة الدستورية العليا بأصدار رأيا استشاريا فيما يسمي " المبادئ الفوق دستورية " وعندها سنعرف من الذي يحترم سيادة الامة ومن الذي يريد أن ينصب نفسه وصيا علي الشعب المصري ... هناك معلومات تقول ان المجلس العسكري تراجع عن هذه الفكرة ولكن مازالت الامور غير واضحة .. وبأفتراض ان المجلس العسكري تراجع عن الفكرة فعلا فإن " الجماعة " المطالبين بمبادئ فوق دستورية سوف يخرجوا علي الفضائيات ليبكوا علي الديموقراطية التي وأدت حية بعد رفض تلك المبادئ , لذلك فإن هذا المقال يعتبر ردا استباقيا علي هؤلاء , يوضح ان حجتهم الدستورية ضعيفة جدا !