إذا كانت المعاجم تعنى بدلالة المفردات .. فإننا نجد في كتب الأمثال ، وهي مصدر خاص من مصادر الأدب المتنوعة والغنية ، وظيفة مشابهة لهذه ؛ فالمعلومة الأساس التي تشترك هذه الكتب في إيرادها مع المثل هي : بيان مضرِب هذا المثل ؛ يعني : السياق الملائم لاستعارة هذه المقولة القديمة (السلفية) إليه ؛ وبدون تحرير هذا المعنى (السياقي) ، ومراعاته في الاستشهاد ، يفقد المثل قيمته الأدبية ، ويتضاءل مدلوله المعنوي ، وإن كان في أصله من حُرِّ اللفظ ، وشريف المعنى . لقد وصف المشروع السياسي للسلفيين ، بل المشروع السياسي الإسلامي المعاصر بصفة عامة بأنه نوع من التورط في (استئناس الإسلام) ، و(التخفف من أعبائه ) ؛ ومُثِّل لذلك ب : عندك كاس من الشراب الحلو ، فتظل تضع فيه ماء ، وتضع ، وتضع .. إلى أن يصبح (ماسخ) !! والمقصود من ذلك واضح ، وهو أن المشروع السياسي الإسلامي ، لن يستطيع ، وهو في طور الخروج من حيز النظرية ، إلى حيز التطبيق ، أن يحافظ على نقاء النموذج الشرعي المصفى ، والتطبيق الراشد المهدي ؛ وإنما سوف يضطر تحت ضغط الواقع الداخلي ، والخارجي بالمقام الأول إلى أن يقدم تنازلات ، وتنازلات ، حتى يحافظ على وجوده : (إما أن نتخفف ليرضوا عنا ، وإما أن نستمسك بالإسلام ، فلا يرضوا عنا ) !! وهذا كله مع افتراض حسن الظن في القائمين على المشروع ، وأن تنازلهم ذلك سوف يكون (قسريا) ، سياسيا ، وليس تنازلا (استراتيجيا) يعمل على تغيير الإطار النظري من أساسه ، أو اختياريا ضمن حالة (الفتنة) التي سوف يوقعه ذلك المشروع فيها ، كما سيأتي نقله . والواقع أنه رغم حرارة العاطفة في هذا الموقف ، روغم الحفاظ والنقاء المنهجي الذي يحاوله ؛ فالمثل المضروب : غير مطابق ؛ والقياس هنا مع الفوارق ؛ وباعتقادي أن هذا التمثيل قد تأخر قرونا عن زمانه الذي يلائمه !! فالصورة الملائمة لضرب هذا المثل : أن يكون عندنا خلافة إسلامية عامة ، أو دولة إسلامية صالحة ، على أقل تقدير ، ثم يتعرض القائمون عليها (الإسلاميون) إلى ضغوط ، وفتن ، تحملهم على التراجع ، والتنازل : إلى أن يصير الشراب الصِّرْف (ماسخا) ، بعدما روينا من حلاوته !! أما وقد سلبت منا كل الكؤوس منذ دهر داهر ، ولم يبق أمامنا سوى كؤوس الذل ، والفساد ، والضياع ، شربنا منها العلقم ، والشلجم ، كيزانا وألوانا ، حتى قرِحت أشداقنا ، وصارت صُفرة (المر) لونَ ألسنتنا ، وشفاهنا ، وهربت منها دماء الحياة ؛ فمن لنا بالحلو حتى (نمسخه) ؛ وهل تركوا لنا حلوا، ولو (على الريحه)؟! والينا ؛ أدام الله والينا رآنا أمة وسطا فلا أبقى لنا دنيا ولا أبقى لنا دينا!! إن ضرب المثال ، وإن كان بليغا مستملحا ، لا يغني كثيرا في مثل هذا المقام ؛ بل هذا كلام ضرّه أكثر من نفعه ، كما يقول أبو سليمان المنطقي ، والمثال يستجيب للحقّ كما يستجيب للباطل، والُمعَوّل على ما ثبت بالدّليل، لا على ما يُدّعى بالتّمثيل . [ الإمتاع والمؤانسة ، للتوحيدي(2/48) ] . إن بالإمكان أن يعارض ذلك المثال ، وبنفس المفردات ، لكن فقط نقرأ الصورة من وجهها ، ونعدل الصفحة عن (المقلوب) : عندنا كأس (ماسخ) ، ليس فيه حبة سكر واحدة ، ولا نملك إلا نصف ملعقة من السكر ، فهل نحليه بها ، تحلية جزئية ضعيفة ، أو ندع الكأس ، والسكر ، ونمضي بعيدا : وَيُقضى الأَمرُ حينَ تَغيبُ تَيمٌ وَلا يُستَأذنونَ وَهُم شُهودُ لقد عمنا الليل بظلامه ، وليس عندنا قناديل عظام ، ولا كهرباء ، ولا قمر يضيء لنا ؛ فقط عندنا شمعة واحدة ، تضيء تارة ، وتخبو أخرى ؛ فهل نستضيء بضوئها الخافت ، ريثما يأتينا الصباح،أو نطفئها هي الأخرى ، و: (تلفانة ، تلفانة) ؟! يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (وَقَدْ يَتَعَذَّرُ ، أَوْ يَتَعَسَّرُ ، عَلَى السَّالِكِ سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ الْمَحْضَةِ ، إلَّا بِنَوْعِ مِنْ الْمُحْدَثِ ؛ لِعَدَمِ الْقَائِمِ بِالطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ عِلْمًا وَعَمَلًا ؛ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ النُّورُ الصَّافِي ، بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا النُّورُ الَّذِي لَيْسَ بِصَافٍ ، وَإِلَّا بَقِيَ الْإِنْسَانُ فِي الظُّلْمَةِ . فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعِيبَ الرَّجُلُ ، وَيَنْهَى عَنْ نُورٍ فِيهِ ظُلْمَةٌ ، إلَّا إذَا حَصَلَ نُورٌ لَا ظُلْمَةَ فِيهِ ؛ وَإِلَّا فَكَمْ مِمَّنْ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْ النُّورِ بِالْكُلِّيَّةِ ، إذَا خَرَجَ غَيْرُهُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِمَا رَآهُ فِي طُرُقِ النَّاسِ مِنْ الظُّلْمَةِ) . [مجموع الفتاوى(10/364)] . إننا نسلم ، ونتفهم ، أننا لسنا بصدد قيام دولة إسلامية ، بالمعنى الذي نفهمه ، وننشده ، فضلا عن أن نكون في نَسَم خلافة على منهاج النبوة ، نحلم بها منذ أزمان ؛ فهذا بحسب الأسباب البشرية أمر لما يَحِن حَيْنه ، وإن كنا لا نتحجر على فضل الله ، وقدرته . وإذ ذاك ، فنحن بصدد مشروع يسعى مرحليا إلى تحصيل أقصى ما يقدر عليه من الخير الممكن ، والعدل الممكن ، وتحكيم ما يتاح له من الشرع المنزل ؛ إننا نحاول أن نضع حبات من السكر (الفَرْط) ، في كوب ماسخ ، ريثما يواتينا الزمان ب(تحلية كاملة ) للكوب ، حتى التشبع !! فهل من المقبول ، وفق الأصول الشرعية ، أن نسعى لتحقيق هذا الخير الجزئي ؛ أو نحن أمام معادلة قطبية : (أبيض/أسود) ؛ المهدي المنتظر ، أو حسني مبارك ؟! إننا ، إذا قدمنا إحسان الظن الواجب بالمشروع الإسلامي ، ورأينا أنه لن يدع خيرا يقدر عليه ، وأن ما يفوته من التطبيق : فلعجزه عنه ، إما علما ، وإما عملا ؛ إذا استصحبنا هذا الأصل : فنحن إذا أمام حالة رخصة ، وعذر شرعي ، لم تهملها نصوص الشرع ، ولا أصوله ؛ فالله تعالى يقول : (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) البقرة/286 ، وقال تعالى : (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) الطلاق/7 ، وقال تعالى : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) التغابن/16 . وقال نبيه صلى الله عليه وسلم : (فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ) [متفق عليه] ، وفي حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : (كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، يَقُولُ لَنَا: «فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ) [متفق عليه] . وينبنى على هذه الأصول النصية ، تقرير الأصوليين أنه : لَا تَكْلِيفَ إلَّا بِمَقْدُورٍ ؛ فالله جل جلاله لم يكلف آحادنا أصلا بأمر يعجز عنه المكلف ، إما علما ، وإما عملا ، وإن كان قد كلف به غيره ، ممن بلغه علمه ، وأمكنه عمله . فإذا قدر أن عندنا خطابا شرعيا ، تضمن خمسة أوامر ، مثلا ؛ وقد عجزنا عن أربعة منها ، فقد بقينا مطالبين بتنفيذ هذا الأمر الواحد الذي نقدر عليه ، وهو الواجب في حقنا ، وإذا عجزنا عن اثنين ، بقينا مطالبين بالثلاثة ، وإذا كنا بالأمس عاجزين ، وقدرنا اليوم ، فقد زال العذر ، وعاد الطلب فيما قدرنا عليه ؛ وهذا هو ما تعبر عنه القاعدة الفقهية : الميسور ، لا يسقط بالمعسور ؛ يعني : أنه إذا كان من المقرر سقوط الطلب في الشيء المتعذر ، فإن الطلب الشرعي ثابت فيما تيسر ، ولو كان الأمران مقترنين في نص شرعي واحد ؛ وهذا أمر يُطلب شرحه ، وأمثلته المتواترة في كتب الأصول والقواعد الفقهية . فإذا انتقلنا من العام إلى الخاص ، وأردنا تطبيقا مباشرا لهذه الأصول في مجال الحكم والسياسة ؛ فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، هو فيما اطلعت عليه أعظم من تعرض لذلك ، وفرع أحوال القضاء والسياسة عليه . يقول شيخ الإسلام رحمه الله : ( وَلَمَّا غَلَبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ إرَادَةُ الْمَالِ وَالشَّرَفِ ، وصَارُوا بِمَعْزِلِ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ فِي وِلَايَتِهِمْ ، رَأَى كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْإِمَارات تنَافِي الْإِيمَانَ وَكَمَالَ الدِّينِ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ غَلَّبَ الدِّينَ ، وَأَعْرَضَ عَمًّا لَا يَتِمُّ الدِّينُ إلَّا بِهِ مِنْ ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى حَاجَتَهُ إلَى ذَلِكَ ؛ فَأَخَذَهُ مُعْرِضًا عَنْ الدِّينِ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُنَافٍ لِذَلِكَ ، وَصَارَ الدِّينُ عِنْدَهُ فِي مَحَلِّ الرَّحْمَةِ وَالذُّلِّ ، لَا فِي مَحَلِّ الْعُلُوِّ وَالْعِزِّ. وَكَذَلِكَ لَمَّا غَلَبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الْعَجْزُ عَنْ تَكْمِيلِ الدِّينِ ، وَالْجَزَعُ لِمَا قَدْ يُصِيبُهُمْ فِي إقَامَتِهِ مِنْ الْبَلَاءِ ، اسْتَضْعَفَ طَرِيقَتَهُمْ وَاسْتَذَلَّهَا مَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا تَقُومُ مَصْلَحَتُهُ وَمَصْلَحَةُ غَيْرِهِ بِهَا. وَهَذانِ السَّبِيلَانِ الفاسدان : سَبِيلُ مَنْ انْتَسَبَ إلَى الَّذِينَ وَلَمْ يُكَمِّلْهُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْجِهَادِ وَالْمَالِ ، وَسَبِيلُ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى السُّلْطَانِ وَالْمَالِ وَالْحَرْبِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ إقَامَةَ الدِّينِ : هُمَا سَبِيلُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ ... ، وَإِنَّمَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ : صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ، هِيَ سَبِيلُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبِيلُ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ .. فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ وُسْعِهِ؛ فَمَنْ وَلِيَ وِلَايَةً يَقْصِدُ بِهَا طَاعَةَ اللَّهِ ، وَإِقَامَةَ مَا يُمَكِّنُهُ مِنْ دِينِهِ ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَقَامَ فِيهَا مَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ ، وَاجْتِنَابِ مَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ: لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ؛ فَإِنَّ تَوْلِيَةَ الْأَبْرَارِ خَيْرٌ لِلْأُمَّةِ مِنْ تَوْلِيَةِ الْفُجَّارِ. وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إقَامَةِ الدِّينِ بِالسُّلْطَانِ وَالْجِهَادِ ، فَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ النَّصِيحَةِ بِقَلْبِهِ ، وَالدُّعَاءِ لِلْأُمَّةِ ، وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ ، وَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ: لَمْ يُكَلَّفْ مَا يَعْجزُ عَنْهُ .. ) [ السياسة الشرعية (240-241) ] . إن شيخ الإسلام يقرر أن إصلاح الدنيا ، مطلوب لإقامة الدين ، وأن ذلك كله منوط بما يقدر عليه المكلف ، وما عجز عنه متى صلحت نيته فإنه لا يؤاخذ عليه . ويمضي شوطا أبعد في هذا الباب ، فيذكر نموذجين تطبيقين (سلفيين) لهذه القاعدة : النموذج الأول : نبي الله يوسف عليه السلام الذي تولى خزائن مصر ، في دولة كافرة ، ولم يكن يمكنه تغيير جميع أوضاعها إلى منهاج النبوة : ( .. فَإِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ ، لَكِنْ فَعَلَ الْمُمْكِنَ مِنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ، وَنَالَ بِالسُّلْطَانِ مِنْ إكْرَامِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُ أَنْ يَنَالَهُ بِدُونِ ذَلِكَ ، وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ) [مجموع الفتاوى(20/56) وما بعدها ، وباقي النص مهم جدا ، لكن المقام لا يتسع لنقله ] . وأما النموذج الثاني : فهو العبد الصالح النجاشي ، ملك الحبشة : (وَالنَّجَاشِيُّ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْكُمَ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ قَوْمَهُ لَا يُقِرُّونَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَكَثِيرًا مَا يَتَوَلَّى الرَّجُلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّتَارِ قَاضِيًا ، بَلْ وَإِمَامًا ، وَفِي نَفْسِهِ أُمُورٌ مِنْ الْعَدْلِ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا فَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ ، بَلْ هُنَاكَ مَنْ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ ، وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا .. ، فَالنَّجَاشِيُّ وَأَمْثَالُهُ سُعَدَاءُ فِي الْجَنَّةِ ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَلْتَزِمُوا مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْتِزَامِهِ ، بَلْ كَانُوا يَحْكُمُونَ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي يُمْكِنُهُمْ الْحُكْمُ بِهَا ) [مجموع الفتاوى(19/218-219)] . إن الله تعالى قد أمر بقطع السارق ، وجلد الزاني ... وحرم الربا ، والخمر .. ، وقد أمر أيضا بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ؛ فإذا قدر أن طائفة من المسلمين قد عجزت عن إقامة شرع الإسلام الخاص ، أو عجزت عن بعض شرائعه وأوامره ؛ فبأي أصل من أصول الشرع يمنع الناس فرادى أو جماعات من السعي في طلب العدل والإحسان ، وصلة الأرحام ، وإن كانت هذه معاني مشتركة بين الشرائع ، بل تقبلها وتسعى إليها دول الكفر ، وقوانينها ؟! يعطينا العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، وهو من أئمة السلفيين المتأخرين (ت:1376ه) تطبيقا لهذه الأصول على السياسة المدنية المعاصرة ، لكنه بعد أن يذكرنا بالأصل الأصيل في هذا الباب ، وهو أن نفرق بين حال القدرة وحال العجز ، بين حال العزيمة وحال الرخصة ، بين العقدي الثابت ، والسياسي الذي يتحرك في إطار الممكن . قال رحمه الله في بيانه لفوائد قصة شعيب ، في سورة هود: (ومنها : أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة ، قد يعلمون بعضها وقد لا يعلمون شيئا منها ، وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم ، أو أهل وطنهم الكفار ، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه . وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها ؛ بل ربما تعين ذلك ؛ لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان . فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار ، وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية ، لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية ، وتحرص على إبادتها ، وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًا لهم ؛ نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين ، وهم الحكام ، فهو المتعين ؛ ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة ، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة ، والله أعلم ) [تفسير السعدي (388) ] . ويمضي واحد من أعلام السلفية (المصرية) ، العلامة الشيخ أحمد شاكر (ت:1377ه) وبحكم خبرته القضائية والسياسية ، يمضي ، ليس فقط في تأصيل ذلك ، بل في بيان مشروعه التطبيقي لبلوغ نصرة الشريعة ، عبر الانتخابات البرلمانية ، التي يتوهم البعض أنها تعاطي السلفيين معها : بِدْع من القول ، تأباه أصولهم: (وإذ ذاك : سيكون السبيل إلى ما نبغي من نصر الشريعة : السبيل الدستوري السلمي : أن نبث في الأمة دعوتنا ، ونجاهد فيها ، ونجاهر بها ، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب ، ونحتكم فيها إلى الأمة ؛ ولئن فشلنا مرة ، فسنفوز مرارا ، بل سنجعل من إخفاقنا، إن أخفقنا أول مرة ، مقدمة لنجاحنا ، بما سيحفز من الهمم ، ويوقظ من العزم ، وبأنه سيكون مُبَصِّرا لنا مواقع خطْوِنا ، ومواضع خطئنا ، وبأن عملنا سيكون خالصا لله ، وفي سبيل الله . فإذا وثقت الأمة بنا ، ورضيت دعوتنا ، واختارت أن تحكم بشريعتها ، طاعة لربها ، وأرسلت منا نوابها إلى البرلمان ، فسيكون سبيلنا وإياكم أن نرضى وترضوا بما يقضي به الدستور ، فتُلقوا إلينا مقاليد الحكم ، كما تفعل كل الأحزاب ، إذا فاز أحدها في الانتخاب ، ثم نفي لقومنا إن شاء الله بما وعدنا ، من جعل القوانين كلها مستمدة من الكتاب والسنة ) [الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر(34-35)] . وأما فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ، رحمه الله ، فقد سئل سؤالا ملغوما حول الانتخابات : (ما حكم الانتخابات الموجودة في الكويت , علماً بأن أغلب من دخلها من الإسلاميين ورجال الدعوة فتنوا في دينه)؟! لم يبال الشيخ رحمه الله بلغم (الفتنة) الكامن في السؤال ، فقال : ( أنا أرى أن الانتخابات واجبة, يجب أن نعين من نرى أن فيه خيراً, لأنه إذا تقاعس أهل الخير من يحل محلهم؟ أهل الشر, أو الناس السلبيون الذين ليس عندهم لا خير ولا شر, أتباع كل ناعق, فلابد أن نختار من نراه صالحاً . فإذا قال قائل: اخترنا واحداً ، لكن أغلب المجلس على خلاف ذلك, نقول: لا بأس, هذا الواحد إذا جعل الله فيه بركة ، وألقى كلمة الحق في هذا المجلس ، سيكون لها تأثير ولابد, لكن ينقصنا الصدق مع الله, نعتمد على الأمور المادية الحسية ولا ننظر إلى كلمة الله عز وجل) [لقاءات الباب المفتوح ، والفتوى متاحة على الشبكة بصوت الشيخ رحمه الله ] . لقد كان من الممكن ، في فقه الأئمة السلفيين الذي نقلنا عنهم هنا ، وغيرهم كثير ، كالشيخ ابن باز رحمه الله وغيره ، كان من الممكن أن يدخل (السلفي) في معمعة البرلمان ، والانتخاب ، وأن يسعى إلى تحقيق ما يقدر عليه من الخير ، وما يسعه من أمر الله وحكمه ؛ وأن يكون معذورا فيما عجز عنه ؛ دون أن يكون ذلك ناقضا لتوحيده ، ولا هادما لسلفيته ؛ لا ، بل هو يسعى إلى ذلك بأصوله السلفية!! والمقام هنا لا يتسع لأكثر من ذلك ، فلنطو بساط البحث فيه ، وعسى أن يتم بسط المختصر هنا في مقام آخر ، إن شاء الله . إشارتان : 1- قد قيل : الفُرصة خلسة ، وأعظم الخطأ العجلة قبل الإمكان ، والتأني بعد الفرصة ؛ وأول الصبح : خيط ، ثم ينفجر ، وأول الغيث : قطر ، ثم ينهمر ، وقد كان جيش للمسلمين ، ما يصيب الواحدَ منهم من القوت : إلا تمرة !! (.. فَقُلْتُ: وَمَا تُغْنِي تَمْرَةٌ، فَقَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ ) !! 2- حزمة الضوء الأبيض لا تعبر إليك ، عبر (المنشور الزجاجي) ، إلا بعد أن تنكسر على صفحاته ، وفي حناياه ، ثم تأتيك أشعةً بَدَدا ، وألوانا قِددا ؛ فإن أردتها جميعا ، كما بعث بها المصباح : فبادرها في الأمام ، وإلا فليس ثم إلا : الانتظار .. والانكسار ؛ والزجاج الرقراق : ليس محايدا دائما!! (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) .