رفض إعادة نشر «أولاد حارتنا» حتى وفاته.. ودافع عن الحضارة الإسلامية أمام «نوبل» ابن شقيقة الأديب الراحل أحد قيادات «الإخوان المسلمين».. وسيد قطب قال له: محفوظ سيكون أفضل أديب بالعالم
قدم الكاتب والمفكر الإسلامي، محمد يوسف عدس، ما قال إنها "شهادة إنصاف" للأديب الراحل، نجيب محفوظ، الحاصل على جائزة "نوبل" للسلام "من تهمة لصقت به نتيجة خطأ استهان به في البداية ثم أفاق إلى نفسه"، في إشارة إلى رواية "أولاد حارتنا"، التي منع الأزهر نشرها لسنوات، في ظل الجدل الذي أحيط بها، واتهم المتعصبين من الجانبين: الإسلامي والعلماني على السواء باستغلالها. وكشف عدس في مقاله المنشور ب "المصريون" اليوم عن تمسك محفوظ برفضه نشر الرواية حتى مماته؛ قائلاً إنه "أصدر بشأنها قرارًا سابقًا والتزم به حتى آخر حياته، وهو ألا يعيد نشرها أبدًا إلا بإذن من الأزهر"، وبقي على موقفه حتى بعد فوزه بجائزة نوبل سنة 1989م، عندما أعلنت صحيفة "المساء" الحكومية إعادة نشر الرواية مسلسلةً، لكن بعد أن نشرت الحلقة الأولى اعترض محفوظ عليها فتم إيقاف النشر. وأضاف: جرت محاولات أخرى بعد استهداف حياته بالاغتيال سنة 1994م، متّخِذةً من التعاطف الشعبي ستارا للترويج للرواية.. فتنافست عدة صحف على نشرها منها "الأهالي"، لكنه "ظل على موقفه من معارضة النشر.. إلا أن "الأهالي" وهي صحيفة شيوعية لايهمها الجانب الأدبي من الرواية بقدر ما يهمها الترويج لعمل أدبي أصبح رمزًا للتجديف على الإسلام.. لم تحترم إرادة نجيب محفوظ ونشرتها كاملة في عدد خاص يوم الأحد 30 أكتوبر 1994م". وفسّر عدس، غياب محفوظ عن حضور حفل تسلم جائزة "نوبل" بكثرة الجدل والمبالغة في تقييم أثر رواية "أولاد حارتنا" كسبب في الجائزة. وتابع "كان على نجيب محفوظ أن يختار بين أمرين: رفْضُ الجائزة من الأساس.. وهذا لن يعفيه من التهمة التي لصقت به، أما الاختيار الثاني الذي آثره نجيب محفوظ فهو ألا يُظهر اهتمامًا عمليًّا بالجائزة فلا يسافر ولا يحضر احتفال مؤسسة نوبل عند تسلّم الجائزة.. فبعث من ينوب عنه هناك.. ولكن الأهم أنه ضمّن كلمته عبارات قوية وجريئة عن أكبر القضايا المؤرقة في العالم العربي وهي القضية الفلسطينية.. وأبرز الانتهاكات والمظالم التي وقعت على الشعب الفلسطيني من جراء العنف الإسرائيلي.. وندّد بسكوت الغرب على هذه الانتهاكات. ونشر عدس مقتطفات من كلمة الأديب الراحل التي ألقيت بالإنابة عنه خلال تسليم جائزة "نوبل"، والتي جرى التكتيم عليها، بعد أن سلط الإعلام الضوء فقط على تمجيده الحضارة الفرعونية، دون الإشارة إلى افتخاره بالانتماء إلى الحضارة الإسلامية". إذ قال محفوظ مخاطبًا الحاضرين "لن أحدثكم عن دعوتها (الحضارة الإسلامية) إلى إقامة وحدة بشرية في رحاب الخالق تنهض على الحرية والمساواة والتسامح، ولا عن عظمة رسولها.. فمن مفكريكم من كرّمه كأعظم رجل في تاريخ البشرية.. ولا عن فتوحاتها التي غرست آلاف المآذن الداعية للعبادة والتقوى والخير على امتداد أرضٍ مترامية؛ ما بين مشارف الهند والصين وحدود فرنسا. ولا عن المُؤاخاة التي تحققت في حضنها بين الأديان والعناصر.. في تسامح لم تعرفه الإنسانية من قبل ولا من بعد.. ولكنى سأقدمها في موقف درامي مؤثر يلخص سمة من أبرز سماتها.." "ففى إحدى معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية ردّت الأسرى فى مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقى العتيد. وهى شهادة قيّمة للروح الإنسانى فى طموحه إلى العلم والمعرفة.. رغم أن الطالب يعتنق دينا سماويا والمطلوب ثمرة حضارة وثنية ".. ثم انتقل إلى استعراض أوجاع البشرية وآلامها، وأشار إلى المأساة الفلسطينية إشارات واضحة بالغة القوة.. يقول: " لعلكم تتساءلون: هذا الرجل القادم من العالم الثالث.. كيف وجد من فراغ البال ما أتاح له أن يكتب القصص..؟ ، وهو تساؤل فى محلِّه .. فأنا قادم من عالم ينوء تحت أثقال الديون حتى ليهدده سدادها بالمجاعة أو ما يقاربها .. يهلك منه أقوام فى أسيا من الفيضانات .. ويهلك آخرون فى أفريقيا من المجاعات .. وهناك فى جنوب أفريقيا ملايين المواطنين قُضى عليهم بالنبذ والحرمان من أى من حقوق الانسان فى عصر حقوق الإنسان وكأنهم غير معدودين من البشر.. وفى الضفة وغزة أقوام ضائعون رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم.. هبّوا يطالبون بأول مطلب حققه الإنسان البدائى وهو أن يكون لهم موضع مناسب يُعترف لهم به . فكان جزاء هبّتهم الباسلة النبيلة رجالا ونساء وشبابا وأطفالا تكسيرًا للعظام ، وقتلًا بالرصاص وهدْما للمنازل.. وتعذيبا فى السجون والمعتقلات.. ومن حولهم مائة وخمسون مليونا من العرب ، يتابعون ما يحدث بغضب وأسى، مما يهدد المنطقة بكارثة إن لم تتداركها حكمة الراغبين فى السلام الشامل العادل" .. وعلق عدس قائلاً: "هذا الكلام الواضح المستقيم كالسيف، الشفاف كالبلّور، لا يقوله ملحد ولا دعيّ أفَّاق ولا منافق خسيس ولا انتهازي يبيع قيمه ومبادئه لمن منحوه أعظم جائزة فى الأدب، ولديهم عشق خاص لسماع كل ما يُسيئ إلى الإسلام والفكر الإسلامي، يطربون له وينفقون على أصحابه بسخاء عظيم.. كما فعلوا مع ملاحدة ومنافقين سابقين من أمثال: سلمان رشدى وغيره ، يُعدون بالعشرات بل بالمئات.. يعيشون اليوم فى الغرب عيشة الملوك، ولكن لا ترتفع هاماتهم إلى مستوى نعل نجيب محفوظ". كما أشار عدس إلى كلمة محفوظ خلال ندوة أقامتها "الأهرام" تحت عنوان "نحو مشروع حضاري عربي" قال فيها بالنص: "إن أي مشروع حضاري عربي لابد أن يقوم علي الإسلام .. وعلي العلم.." وشرح رأيه بالتفصيل في مناسبة أخرى حضرها بعض المثقفين الشهود، ذكر منهم الإعلامي المخضرم أحمد فراج صاحب البرامج الدينية الشهيرة. قال محفوظ: "إن أهل مصر الذين أدركناهم.. وعشنا معهم.. والذين تحدثت عنهم في كتاباتي كانوا يعيشون بالإسلام .. ويمارسون قيمه العليا .. دون ضجيج ولا كلام كثير.. وكانت أصالتهم تعني هذا كله.. ولقد كانت السماحة وصدق الكلمة وشجاعة الرأي وأمانة الموقف ودفء العلاقات بين الناس .. هي تعبير أهل مصر الواضح عن إسلامهم .. ولكني في كلمتي إلي الندوة أضفت ضرورة الأخذ بالعلم .. لأن أي شعب لا يأخذ بالعلم ولايدير أموره علي أساسه لايمكن أن يكون له مستقبل بين الشعوب.. إن كتاباتي كله ا؛ القديم منها والجديد، تتمسك بهذين المحورين: الإسلام الذي هو منبع قيم الخير في أمتنا.. والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا". وعلق عدس قائلاً: "صحيح أن نجيب محفوظ فى فترة من حياته الدراسية كان متأثرا بالأفكار الماركسية عن العدالة الاجتماعية والاشتراكية ولكن كثيرا من المفكرين الذين مروا بهذه المرحلة تجاوزوها وأصبحوا من المفكرين الإسلاميين المرموقين نذكر منهم: المستشار طارق البشري و محمد عمارة ومصطفى محمود.. بل إن على عزت بيجوفيتش فيلسوف الإسلام فى القرن العشرين يعترف بلوثة ماركسية أصابته فى سنوات مراهقته، سرعان ما انقشعت". مفاجأة أخرى يكشفها عدس في مقاله، إذ يقول إن ابن أخت نجيب محفوظ، وهو جمال النهري كان طبيبًا وكاتبًا ومفكرًا إسلاميًا وأحد قيادات الإخوان المسلمين الذين استضافتهم سجون مصر أكثر من مرة في عهد الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر ويروي عدس نقلاً عن النهري كيف أنه تحايل على زيارة سيد قطب منظّر "الإخوان المسلمين" في مستشفى السجن سنة 1954م برشوة حارسه، وأشار إلى أن الأخير ذكر نجيب محفوظ بخير، إذ قال للنهري وهو لا يعرف أنه ابن أخته: "لو قُدِّر لك أن تخرج سترى نجيب محفوظ أعظم أديب في مصر وربما في العالم"، ونصحه بلقائه والتعرُّف عليه عن قرب .. والتعلم منه". وتابع عدس "دهشت أكثر من هذا أن سيد قطب هو الذى كشف عن عبقرية نجيب محفوظ فى وقت مبكر جدّا خلال الأربعينات من القرن العشرين، عندما بدأ يكتب قصصه فلم يلتفت إليه أحد من النقاد سوى سيد قطب وكان أحد أبرز نقاد الأدب فى مصر. عُنى بقراءة قصصه وكتب عنها وتنبأ له بمستقبل أدبي باهر، وكانت سعادة نجيب محفوظ بهذه الشهادة فوق الوصف؛ فقد انطلقت شهرته وشاعت على كل لسان بعد هذه الشهادة التى كتبت بقلم أديب متميز كان يكتب بأفصح بيان وأجمله عن موضوعين أثيرين لدى المثقفين فى ذلك الوقت: العدالة الاجتماعية ، والتصوير الفني فى القرآن.. وكان مبدعًا ومقروءًا على أوسع نطاق من أنصار العدالة الاجتماعية والإسلاميين على السواء".